خطبة معاوية بعد الصلح مع الحسن في ضوء صحيح البخاري
Muawiyah's sermon after the peace treaty with Al-Hasan in light of Sahih Al-Bukhari
اكتشف تفاصيل خطبة معاوية بعد الصلح مع الحسن كما وردت في صحيح البخاري، مع تحليل سياقها التاريخي ومقارنة بالروايات الأخرى ودلالاتها على وحدة الأمة

من أبرز المحطات المفصلية في التاريخ الإسلامي تلك التي جرت عقب استشهاد الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث بويع ابنه الحسن بالخلافة، ثم انتهى الأمر بتنازله لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سنة 41 هـ، وهو العام الذي عُرف بعام الجماعة. هذا الصلح أنهى فترة من الفتن والاقتتال الداخلي، وجمع كلمة المسلمين على إمام واحد.
قائمة المحتويات
ومن بين الأحداث التي عكست حساسية تلك المرحلة، خطبة معاوية بعد الصلح مع الحسن، وهي الخطبة التي وردت في صحيح البخاري بدقة متناهية، وتناقلها الرواة لما تحمله من دلالات سياسية وعقائدية وتاريخية.
في هذه المقالة المطوّلة، نستعرض هذه الخطبة كما رواها البخاري، ونناقش سياقها التاريخي، مع مقارنتها بروايات أخرى كالمروية في مصنف عبد الرزاق، ونبرز موقف الصحابة منها وخاصة عبد الله بن عمر، لنفهم أبعادها وأثرها في مسيرة الأمة.
خلفية تاريخية: من صفين إلى عام الجماعة
قبل التعرف على خطبة معاوية بعد الصلح مع الحسن في ضوء صحيح البخاري سوف نتعرف في التالي على خلفية تاريخية من صفين إلى عام الجماعة:
معركة صفين والتحكيم
بعد استشهاد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، بويع علي بن أبي طالب بالخلافة. لكن معاوية بن أبي سفيان، والي الشام آنذاك، رفض مبايعته بحجة ضرورة الاقتصاص أولاً من قتلة عثمان، ووافقه في ذلك العديد من الصحابة مثل الزبير وطلحة والسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها. تطورت الأحداث إلى معركة صفين سنة 37 هـ، والتي انتهت بالتحكيم بين الطرفين في دومة الجندل.
نتائج التحكيم
التحكيم لم يحسم النزاع بشكل واضح، بل أدى إلى مزيد من الانقسام وظهور الخوارج. ومع ذلك بقي معاوية ممسكاً بزمام الشام، بينما استمر علي في العراق والحجاز. بعد استشهاد علي، بويع الحسن بن علي بالخلافة، لكنه لم يلبث أن اختار الصلح مع معاوية حقناً للدماء، وهو الموقف الذي أرسى الاستقرار وجمع المسلمين بعد سنوات من الفتنة.
الصلح بين الحسن ومعاوية

تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، مقابل شروط أهمها:
- أن يعود الحكم للمسلمين من بعده شورى.
- أن يأمن الناس على دمائهم وأموالهم.
- أن يوفَّر العطاء لأهل البيت وأنصارهم.
كان لهذا الصلح أثر بالغ: فقد وحّد صفوف المسلمين، وأوقف نزيف الدم، وأدخل الأمة في مرحلة جديدة سميت بـ”عام الجماعة”، حيث اجتمع الناس على إمام واحد بعد سنوات من الانقسام.
“قد يهمك: تصحيح تاريخ الصحابة الكرام“
نص الرواية في صحيح البخاري
أورد البخاري بسنده عن عبد الله بن عمر أن معاوية رضي الله عنه خطب بعد الصلح قائلاً: “من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر مرة أخرى فليظهر لنا نفسه، فلنحن أحق بهذا الأمر منه ومن أبيه.” المقصود هنا بـ”الأمر” هو الخلافة، والخطاب كان موجهاً لمن قد يثير الشكوك بعد أن سلّم الحسن الأمر لمعاوية. وهي إشارة واضحة إلى أن المسألة حُسمت، وأن الأمة قد اجتمعت بعد طول فرقة.
دقة اختيار الإمام البخاري في رواية خطبة معاوية بعد الصلح
اختار البخاري رواية هشام الصنعاني عن معمر على رواية عبد الرزاق الصنعاني، رغم أن عبد الرزاق من أوثق الرواة. والسبب أن عبد الرزاق كان أحياناً يضيف تفسيرات أو عبارات تفسيرية قد تغيّر المعنى، بينما رواية هشام جاءت أكثر ضبطاً وخالية من التفسيرات. يعكس هذا الاختيار منهج البخاري الصارم، حيث لم يكتف بثقة الراوي، بل فضّل الرواية الأكثر دقة التي توافق السياق، ليضمن أن النص يبقى خالياً من التزيدات أو الشروح الشخصية.
“اطلع على: التوحيد في الدعاء“
عبد الله بن عمر وموقفه من الخلافة
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه من كبار فقهاء الصحابة، ومن أهل الشورى، وله مكانة عظيمة بين الصحابة والتابعين. عندما سمع بخطبة معاوية، همّ أن يقول: “أنا أحق بهذا الأمر منك، فقد قاتلتك وأباك على الإسلام”، مشيراً إلى أن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله كانوا في صفوف المسلمين يوم الخندق، بينما كان أبو سفيان ومعه معاوية في صفوف المشركين.
إلا أن ابن عمر امتنع عن إعلان ذلك علناً، خوفاً من أن يُفهم كلامه على أنه مطالبة بالخلافة، أو يؤدي إلى فتنة جديدة بعد أن اجتمع الناس على كلمة واحدة. هذا الموقف يعكس ورعه وزهده في الحكم، وحرصه على وحدة المسلمين وعدم سفك الدماء.
الفرق بين رواية البخاري ورواية عبد الرزاق
جاء النص عند البخاري موجزاً دقيقاً، يركز على خطبة معاوية بعد الصلح، دون إضافات تفسيرية. أما في مصنف عبد الرزاق فقد ظهرت اختلافات، منها:
- قوله: “فلما تفرق الحكمان” بدلاً من “فلما تفرق الناس”.
- إضافة تفسير أن معاوية يقصد التعريض بعبد الله بن عمر وأبيه، وهو ما يتعارض مع المعروف عن توقير معاوية لعمر بن الخطاب.
من هنا يتضح أن البخاري رفض رواية عبد الرزاق لأنها تحمل زيادات تفسيرية قد تُفهم خطأً، بينما اكتفى برواية هشام الأكثر ضبطاً. في نفس الوقت يُشير أحد الباحثين “صابر مشهور” أن عبد الرازق هو راوي شيعي كان يتعمد الطعن في الصحابة بطريقة غير مباشرة في مروياته.
موقف معاوية من عمر بن الخطاب
من الثابت أن معاوية كان شديد التعظيم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يعتبر نفسه يسير على نهجه في الحكم والإدارة. بل إن معاوية كان يعترف بفضله، حتى أنه قال لابنه يزيد: “لقد حاولت أن أسير بسيرة عمر فما استطعت”. ولهذا يُستبعد تماماً أن يقصد معاوية في خطبته الانتقاص من عمر أو مقارنته بنفسه، مما يدعم رواية البخاري ويضعّف ما نُسب إليه في بعض الروايات الأخرى.
الدلالات السياسية والاجتماعية للخطبة
- تأكيد وحدة الأمة: أراد معاوية بخطبته أن يقطع الطريق أمام أي دعوات جديدة للخلافة، مؤكداً أن الأمة قد اجتمعت بالفعل.
- إغلاق باب النزاع: الخطبة كانت رسالة واضحة إلى كل المعارضين – خصوصاً الخوارج – أن زمن الخلاف قد انتهى.
- دور الصحابة في حفظ الجماعة: إحجام ابن عمر عن التصريح بأحقيته، رغم أنه رأى نفسه أحق بالخلافة من معاوية، يوضح دور الصحابة في تغليب مصلحة الجماعة على الطموحات الفردية.
أثر الخطبة في التاريخ الإسلامي
هذه الخطبة شكلت منعطفاً في مسيرة الدولة الإسلامية:
- أكدت شرعية معاوية بعد الصلح.
- أظهرت حكمة الحسن في التنازل.
- برزت كلمحٍ من مواقف الصحابة الذين اختاروا السلم على النزاع.
“اقرأ أيضًا: زيارة محمد صلاح لمعبد بوذي“
خطبة معاوية بعد الصلح مع الحسن: الخاتمة
تمثل خطبة معاوية بعد الصلح مع الحسن حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية، إذ جسدت مرحلة انتقالية من الصراع إلى الوحدة. وقد نقلها البخاري بدقة لتبقى شاهداً على وعي الصحابة وحرصهم على الجماعة. لقد كان تنازل الحسن خطوة عظيمة لحفظ الدماء، وكانت خطبة معاوية إعلاناً رسمياً بانتهاء الخلاف حول الخلافة، بينما شكّل صمت عبد الله بن عمر درساً بليغاً في الحكمة والورع. إن هذه الأحداث تذكّرنا دوماً بأن وحدة الأمة فوق كل اعتبار، وأن دروس الصحابة في زمن الفتن تبقى نبراساً للأجيال.