يُعد القرآن الكريم المصدر الأسمى والكلمة الإلهية الخالدة، وقد تحدى البشرية منذ نزوله ببلاغته وفصاحته وإعجازه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ورغم وضوح هذا الإعجاز لأهل اللسان والاختصاص عبر العصور، إلا أن بعض الأصوات الحديثة، التي تفتقر إلى الأهلية العلمية واللغوية، تحاول إثارة الشبهات حول أسلوب القرآن الكريم وترتيبه، زاعمة ضعفًا في بلاغته أو خللاً في تنظيمه.
قائمة المحتويات
هذا المقال يسعى إلى تفنيد هذه الشبهات، مستعرضًا جانبًا من جوانب عظمة القرآن البيانية والمعنوية، ومبينًا أن ما يبدو لبعض العقول السطحية “خطأ” أو “ضعفًا” هو في الحقيقة قمة الإعجاز والحكمة الإلهية.
أسلوب الترغيب والترهيب في القرآن: بين الضعف والحكمة الإلهية
- شبهة الاعتماد على الترغيب والترهيب
تُطرح شبهة مفادها أن القرآن الكريم يعتمد بشكل مفرط على أسلوبي الترغيب والترهيب (التبشير بالجنة والتحذير من النار)، وأن هذا الأسلوب يُعد “ضعيفًا” يلجأ إليه من لا يستطيع الإقناع بالمنطق والعقل. يزعم أصحاب هذه الشبهة أن الإغراء والتهديد هما أسلوبان رخيصان لا يتناسبان مع كتاب إلهي.
الرد على الشبهة وبيان الحكمة
ولكن، هذا الادعاء يكشف عن جهل مطبق بالمنهج القرآني الشامل. فالقرآن لم يعتمد على الترغيب والترهيب فقط، بل سبقهما وما يزال يسبقهما دائمًا، بالعرض العقلي المحكم للحجج والبراهين. لقد خاطب القرآن العقول ودعا إلى التفكر والتدبر في آيات الله الكونية والشرعية، مستخدمًا المنطق السليم الذي لا يُدفع. قال تعالى: “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين”. هذا هو الأساس الذي يبني عليه القرآن دعوته. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يستخدم الترغيب والترهيب؟

مراعاة اختلاف مستويات البشر
الجواب يكمن في مراعاة القرآن الكريم لاختلاف المستويات العقلية والنفسية للبشر. فالناس ليسوا على وتيرة واحدة في الاستجابة للمنطق والحجة:
- منهم أولو الألباب الذين يكفيهم البرهان العقلي والحجة الدامغة، وهؤلاء هم من يوجه إليهم القرآن دعوة “للتدبر” و”التفكر” و”التعقل”.
- وهناك فئة أخرى، قد تكون عقولهم محجوبة بالشهوات أو الأطماع الدنيوية، أو ليس لديهم القدرة على استيعاب الحجج العقلية المعقدة بنفس القدر. لهؤلاء، لا بد من أسلوب آخر يخاطب جوانب أخرى في النفس البشرية، وهي الرغبة في النعيم أو الخوف من العذاب.
هذا التنوع في الأسلوب ليس ضعفًا، بل هو عين الحكمة ومقتضى الكمال الإلهي في مخاطبة خلقه.
الأب الحكيم يعلم أن أبناءه يختلفون في طريقة استيعابهم للأوامر:
- فمنهم من يستجيب للإقناع الهادئ والمنطق.
- ومنهم من يحتاج إلى الترغيب بالجائزة.
- ومنهم من لا يستجيب إلا بالترهيب بالعقوبة.
والقرآن، بكونه كلام رب البشر الذي خلقهم ويعلم ما توسوس به نفوسهم، يراعي هذا التباين الفطري في البشر. فالهدف الأسمى هو صلاح الإنسان وهدايته، سواء كان ذلك عبر الإقناع العقلي المباشر أو عبر تحفيز مشاعر الرجاء والخوف. كلا الأسلوبين يصبان في مصلحة العبد وهدايته.
قال الله تعالى: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم”. وبالتالي، فإن الترغيب بالنعيم والتخويف بالنار هو أسلوب موجه لأصحاب الشهوات والهوى، ليدركوا أن النعيم الأبدي خير من متع الدنيا الزائلة، وأن العذاب الأخروي أشد وأبقى من أي عقوبة دنيوية. إنه لغة يفهمونها ويستجيبون لها.
“قد يهمك: التوحيد في الدعاء“
الترتيب القرآني: فوضى أم إعجاز منهجي؟
- الشبهة المثارة حول الترتيب
من الشبهات المتكررة أيضًا الادعاء بأن القرآن الكريم يفتقر إلى الترتيب المنطقي للأحداث أو المواضيع، وأنه ينتقل فجأة من موضوع إلى آخر ثم يعود إلى الأول، مما يسبب “تشتتًا” للقارئ. ويضربون مثالاً بآيات في سورة البقرة تتحدث عن أحكام النساء والطلاق، ثم تتخللها آيتان عن الصلاة، ثم تعود الآيات للحديث عن أحكام النساء مرة أخرى. ويعتبرون هذا “خطأً” في التنسيق.

الرد وبيان سر التداخل
إن هذا الادعاء هو نتيجة حتمية للنظر السطحي غير المتدبر في آيات القرآن الكريم. فالقرآن ليس:
- كتاب تاريخ يسرد الأحداث بتسلسل زمني بحت.
- ولا كتاب قانون جاف يفصل المسائل في أبواب مستقلة تمامًا.
إن أسلوب القرآن فريد من نوعه، وهو أسلوب “تداخلي” عميق يهدف إلى غايات أبعد من مجرد السرد أو التقنين.
الربط بين العبادات والمعاملات
السر في هذا “التداخل” هو أن القرآن يعمد إلى الربط الدائم بين:
- العبادات (حقوق الله).
- المعاملات (حقوق العباد).
فالقرآن يريد أن يغرس في نفس المسلم أن الدين ليس عبادات منعزلة عن الحياة، ولا معاملات منفصلة عن العلاقة بالله. بل هما وجهان لعملة واحدة: منهج الله الشامل.
عندما يتحدث القرآن عن أحكام الزواج والطلاق، ثم يتخلل ذلك بآيات عن الصلاة، فهو يريد أن يقول لنا:
- إن السبيل إلى طاعة الله في المعاملات، وتطبيق أحكامه المعقدة التي قد تخالف الهوى، هو بتطهير النفس أولاً بالعبادات.
- وأشد هذه العبادات أثرًا في تهذيب النفس هي الصلاة.
أسلوب يثير التدبر
إنها تذكرة دائمة بأن كل تفاصيل حياتنا، من معاملاتنا الشخصية إلى قوانين مجتمعنا، يجب أن تكون في إطار منهج الله الواحد. هذا الربط المتكرر بين العبادات والمعاملات هو أسلوب قرآني مقصود يهدف إلى تعديل المفهوم الخاطئ الذي يفصل بين الدين والحياة.
إن هذا الأسلوب القرآني يدفع القارئ إلى التعجب والتساؤل: “ما العلاقة؟”، وهذا التعجب مقصود ليدفع العقل للتدبر العميق والوصول إلى المعاني الخفية. فالقرآن ليس مجرد كتاب قصص أو قوانين تسرد ثم تغلق، بل هو نص حي متكامل يدعو إلى التفاعل والتفكر في كل آياته.
“قد يهمك: القرآن الكريم وتحريف التوراة والإنجيل“
من يمتلك حق تقييم بلاغة القرآن؟
- التشبيه بميدان الطب والدواء:
أخيرًا، يثار سؤال جوهري: من يملك الحق في تقييم بلاغة القرآن وأسلوبه؟ هل هو أي شخص يقرأ كلمتين من ورقة، أم أهل الاختصاص والفن؟
للتوضيح، دعونا نضرب مثالاً: لو أن دواءً جديدًا تم إنتاجه بتركيبة معقدة وادعى صاحبه أنه لا نظير له، فهل يذهب الشخص العادي لتقييم مدى فعاليته؟ أم يذهب إلى طبيب متخصص وكفء ليُقيمه بناءً على علم ومعرفة؟ لا شك أن العقل السليم يقتضي الرجوع لأهل الاختصاص.
شهادة أهل الاختصاص عبر العصور
القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، في أمة كانت تفتخر بقوة لسانها وبلاغة شعرها، وتتخذ الشعر أداة للخناق والمفاخرة. لقد تحدى القرآن أهل البلاغة والفصاحة أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا. ولقد شهد له فحول اللغة والأدب على مر العصور، من ألد أعدائه إلى أشد المصدقين به، بكونه أسمى ألوان الكلام وأعظم درجات البلاغة.
فكيف يمكن لشخص لا يمتلك أدنى مقومات فهم البلاغة العربية، ولا يعرف أصول اللغة، ولا يعي دقائق الأساليب، أن يدعي “ضعف” أسلوب القرآن؟ إن هذا الادعاء لا ينم إلا عن جهل مركب، ولا يقلل من شأن القرآن شيئًا، بل هو شهادة لعظمته. فمتى استنكر الجاهل قول العالم، كان ذلك مدحًا للعالم.
القرآن لم يأت بعبث، ولم ينتقل من موضوع إلى آخر بلا حكمة. كل كلمة، وكل تركيب، وكل تداخل، وكل ترتيب، هو جزء من بناء محكم يدل على الإعجاز المطلق.
وقد خصصت علوم التفسير أبوابًا كاملة لـ “الربط بين الآيات والسور”، تكشف عن دقة متناهية في الصياغة والترتيب تجعل البدن يقشعر من عظمة هذا الكتاب. فما يظنه العقل السطحي تشتتًا هو في الحقيقة نسيج محكم يدل على أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون من عند بشر.
“تعرف على: : الصلاة على النبي”
“قد يهمك: تصحيح تاريخ الصحابة الكرام“
بلاغة القرآن الكريم وإعجازه: الخاتمة
في الختام، يتضح أن الشبهات المثارة حول أسلوب القرآن الكريم وترتيبه هي شبهات واهية لا تستند إلى أساس علمي أو لغوي متين. إنها نابعة من نظرة سطحية للقرآن، تفتقر إلى التدبر العميق والفهم الشامل الذي يتطلبه كتاب الله.
فالقرآن، بأسلوبه الفريد الذي يجمع بين:
- الحجة العقلية.
- الترغيب والترهيب.
- الترتيب المعجز الذي يربط بين مختلف جوانب الحياة والعبادة.
إنما يقدم للبشرية منهجًا كاملاً ومتكاملاً لا يمكن أن يصدر إلا من خالق عليم حكيم خبير بما يصلح عباده.
إن بلاغة القرآن وإعجازه حقيقة راسخة شهد لها أهل الاختصاص على مر العصور، وستبقى تحديًا لكل من يحاول التقليل من شأنه أو النيل من عظمته، فـ “القرآن مشهود له من حيث بلغته وإعجازه وأسلوبه، والشهادة دي من أشد الناس تخصصًا على مر الزمان”.

يعد كمال علي كاتبًا متخصصًا في الشؤون الإسلامية، حيث يقدم محتوى مميزًا يجمع بين الأسلوب السهل والطرح العميق. يكتب عن العقيدة، الفقه، السيرة النبوية، والتربية الإسلامية، مع الحرص على تبسيط المفاهيم الدينية لتكون في متناول الجميع.
يحرص كمال على أن تكون مقالاته مصدرًا للوعي الديني الصحيح، بعيدًا عن التعقيد أو الغموض، مع التركيز على إبراز سماحة الإسلام ووسطيته. كما يربط بين التعاليم الإسلامية والحياة اليومية ليجعل القارئ أكثر قدرة على تطبيق القيم الدينية في واقعه المعاصر.
إلى جانب ذلك، يولي اهتمامًا بمواضيع الشباب والأسرة والتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، مما يجعل كتاباته شاملة ومؤثرة.