عندما نتجول في أقسام السوبر ماركت، يقع نظرنا على أنواع مختلفة من الحليب المعلب، بعضها يعرض على الأرفف العادية في عبوات كرتونية، وبعضها الآخر يحتل مكانه داخل ثلاجات العرض في عبوات بلاستيكية أو كرتونية أيضاً. هذا التباين في طريقة العرض والحفظ يثير تساؤلاً جوهرياً لدى الكثيرين: ما الفرق بين هذين النوعين من الحليب؟ وأي منهما يجب أن نختاره لضمان سلامتنا وصحة عائلاتنا؟ هل الحليب المحفوظ بالثلاجة أفضل من الحليب الذي يمكن تخزينه خارج الثلاجة؟
قائمة المحتويات
تهدف هذه المقالة المتعمقة إلى إزالة هذا اللبس وتقديم شرح وافٍ ومفصل لأنواع الحليب المعالج حرارياً المتوفرة في الأسواق، مع التركيز على عمليتي البسطرة والتعقيم (UHT)، وتأثير كل منهما على القيمة الغذائية، وكيفية اتخاذ القرار الأمثل عند الشراء. لن نكتفي بالحديث عن الفروق الظاهرية، بل سنتعمق في الأسباب العلمية والاحتياطات الصحية التي تقف وراء كل طريقة معالجة.
لماذا تحتاج الألبان للمعالجة الحرارية؟ ضرورة حماية المستهلك
الحليب، بطبيعته، يُعد غذاءً غنياً ومتكاملاً، فهو يحتوي على مجموعة واسعة من المغذيات الأساسية مثل البروتينات، الدهون، سكر اللاكتوز، بالإضافة إلى العديد من الأملاح المعدنية الهامة كالكالسيوم. هذه التركيبة الغنية، رغم فوائدها العظيمة، تجعله بيئة خصبة لنمو وتكاثر البكتيريا والكائنات الدقيقة. من اللحظة التي يُحلب فيها الحليب من الحيوان وحتى وصوله إلى المستهلك، يمر بعدة مراحل قد تعرضه للتلوث.
تخيل رحلة الحليب من المزرعة إلى مائدتك؛ فهو ينتقل من وعاء لآخر، ومن يد لأخرى، ومن مكان لآخر، وكل هذه المراحل تزيد من احتمالية تعرضه للملوثات الخارجية. علاوة على ذلك، الحيوانات نفسها قد تكون حاملة لأمراض تنتقل للإنسان عبر الحليب غير المعالج حرارياً، مثل حمى المالطية (البروسيلا) التي تُعد من الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان.
هذه المخاطر الصحية هي ما جعل المعالجة الحرارية للحليب ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية لضمان سلامة المستهلك. فالمبدأ الأساسي هنا هو أن:
- درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة.
- الحفاظ على السلامة من الأمراض أولى من الحفاظ على كامل القيمة الغذائية في بعض الأحيان.

البسترة: تاريخ وأساسيات اللبن المبستر
تُعد عملية البسترة إحدى أقدم وأشهر طرق المعالجة الحرارية للحليب، وقد سُميت بهذا الاسم نسبة إلى العالم الفرنسي الشهير لويس باستير، الذي أحدث ثورة في مجال حفظ الأغذية. قبل باستير، كان الحليب يُغلى في المنازل للقضاء على البكتيريا، وهي طريقة فعالة جزئياً لكنها لا تقضي على جميع أنواع البكتيريا، خاصة تلك التي تكون “متحوصلة” أو مُحاطة بجدار واقٍ يحميها من درجات الحرارة العالية نسبياً.
اكتشف باستير طريقة “الصدمة الحرارية”، حيث يتم رفع درجة حرارة الحليب إلى مستوى معين لفترة قصيرة جداً، ثم تبريده بشكل مفاجئ وسريع. بالنسبة للحليب المبستر الذي نجده في الثلاجات، يتم تعريضه لدرجة حرارة تتراوح بين 72 إلى 74 درجة مئوية لمدة 15 ثانية فقط، ثم يُبرد فوراً إلى 4 درجات مئوية. هذه الصدمة الحرارية فعالة جداً في القضاء على البكتيريا الضارة والمسببة للأمراض، بما في ذلك الأنواع المتحوصلة التي كانت تنجو من الغليان العادي.
خصائص الحليب المبستر
- يُحفظ في عبوات مثل الزجاجات البلاستيكية أو الكرتونية.
- يجب أن يُحفظ دائماً في الثلاجة (عند درجة حرارة 4 درجات مئوية) سواء كان مغلقاً أو مفتوحاً.
- صلاحيته قصيرة نسبياً، تتراوح عادة بين 7 إلى 10 أيام.
- عملية البسترة لا تقضي على جميع أنواع البكتيريا، بل تستهدف البكتيريا الممرضة والأنواع التي تسبب فساد الحليب السريع.
- قد تنمو بعض البكتيريا الأخرى غير الضارة وتتسبب في فساده إذا لم يُحفظ مبرداً.
“اقرأ أيضًا: هل الخضروات الصليبية ضارة بالفعل بالغدة الدرقية“
الحليب المعقم (UHT): طويل الأمد وآمن للاستخدام
الحليب المعقم، أو ما يُعرف بالحليب طويل الأجل (UHT – Ultra-High Temperature)، يمثل تطوراً آخر في مجال المعالجة الحرارية. هذا النوع من الحليب يتعرض لدرجة حرارة أعلى بكثير ولفترة أقصر جداً مقارنة بالبسترة. ففي عملية التعقيم، يتم رفع درجة حرارة الحليب إلى حوالي 135 درجة مئوية (وقد تصل إلى 140 درجة مئوية) لمدة تتراوح بين 2 إلى 4 ثوانٍ فقط. هذه المعالجة الفائقة تقضي على جميع أشكال الحياة الميكروبية في الحليب، بما في ذلك الأبواغ البكتيرية التي قد تنجو من البسترة.
التعبئة والتخزين
بعد هذه المعالجة، يُعبأ الحليب المعقم في عبوات خاصة تُعرف باسم “تتراباك” (Tetra Pak). هذه العبوات ليست مجرد كرتون عادي، بل تتكون من سبع طبقات متعددة، مصممة خصيصاً لحماية الحليب المعقم من الضوء والهواء والبكتيريا الخارجية، وبالتالي منعه من التلوث مرة أخرى.
- يمكن حفظ الحليب المعقم على الأرفف العادية في درجة حرارة الغرفة (خارج الثلاجة).
- صلاحيته تصل إلى ستة أشهر أو أكثر قبل الفتح.
- بمجرد فتح العبوة، يجب تبريده واستهلاكه خلال أيام قليلة، تماماً مثل الحليب المبستر.
“تعرف على: المشي لمدة 10 دقائق بعد الأكل“
تأثير المعالجة الحرارية على القيمة الغذائية للحليب
هنا يأتي السؤال الجوهري: هل تؤثر هذه المعالجات الحرارية على القيمة الغذائية للحليب؟ الإجابة الصريحة هي: نعم، تتأثر القيمة الغذائية، ولكن هذا التأثر غالباً ما يكون مقبولاً مقارنة بفوائد السلامة التي توفرها المعالجة. كلما زادت درجة الحرارة وطالت مدة المعالجة، زاد تأثيرها على بعض المغذيات الحساسة للحرارة.

المغذيات المتأثرة
- بعض الفيتامينات الذائبة في الماء مثل فيتامين C وبعض فيتامينات B.
- بعض الإنزيمات المفيدة الموجودة طبيعياً في الحليب الخام والتي تساعد في عملية الهضم.
هذا التأثر يكون أكثر وضوحاً في الحليب المعقم (UHT) نظراً لدرجة الحرارة العالية التي يتعرض لها مقارنة بالحليب المبستر.
المغذيات التي لا تتأثر
- البروتينات.
- الدهون.
- الكالسيوم (Calcium).
- معظم الأملاح المعدنية.
بمعنى آخر، الحليب المعالج حرارياً لا يفقد قيمته الغذائية كلياً؛ بل يظل مصدراً ممتازاً للبروتين والكالسيوم والعديد من المغذيات الأخرى.
ولتعويض أي نقص محتمل في بعض الفيتامينات، تقوم بعض الشركات بتدعيم الحليب المعالج حرارياً، خاصة الحليب المعقم، بفيتامينات إضافية مثل:
- فيتامين د.
- فيتامين أ.
“قد يهمك: فوائد الكبد لصحة البشرة“
الخلاصة: أي نوع من الحليب تختار؟
بعد هذا الشرح المفصل، يصبح اختيار نوع الحليب أكثر وضوحاً ويعتمد على احتياجاتك وظروف تخزينك:
- الحليب المبستر: إذا كنت تفضل حليباً أقرب إلى شكله الطبيعي نسبياً من حيث المعالجة وأقل تأثراً بالحرارة (ولو بشكل طفيف)، وتتوفر لديك مساحة في الثلاجة، فإن الحليب المبستر هو خيار ممتاز. صلاحيته الأقصر تتطلب استهلاكاً أسرع. هو مثالي للاستخدام اليومي المستمر.
- الحليب المعقم (UHT): إذا كنت تبحث عن حليب يمكن تخزينه لفترات طويلة دون الحاجة للتبريد، أو إذا كنت تشتري كميات كبيرة وترغب في الاحتفاظ بها كاحتياطي، أو في حال عدم توفر الثلاجة بشكل دائم (كالسفر أو التخييم)، فإن الحليب المعقم هو الحل الأمثل. سلامته مضمونة بشكل كامل تقريباً من البكتيريا بفضل المعالجة الفائقة والتعبئة الخاصة.
في النهاية، كلا النوعين من الحليب المبستر والمعقم آمنان تماماً للاستهلاك ويوفران جزءاً كبيراً من القيمة الغذائية للحليب الخام. الاختيار بينهما يعتمد في المقام الأول على تفضيلاتك الشخصية وعادات استهلاكك، مع الأخذ في الاعتبار أهمية التخزين الصحيح لكل نوع للحفاظ على جودته وسلامته. الأهم هو أن نبتعد تماماً عن استهلاك الحليب الخام غير المعالج حرارياً، لضمان صحتنا وسلامة عائلاتنا.

الدكتور كمال خالد كاتب وخبير في الصحة العامة، يقدم محتوى طبيًا موثوقًا مبنيًا على أسس علمية حديثة. يكتب عن التغذية السليمة، الوقاية من الأمراض، الصحة النفسية، وأسلوب الحياة الصحي.
يهدف من خلال مقالاته إلى نشر الوعي الصحي بين القراء بطريقة مبسطة، بعيدًا عن المصطلحات الطبية المعقدة، مع تقديم نصائح عملية قابلة للتطبيق في الحياة اليومية.
كما يولي اهتمامًا خاصًا بقضايا الصحة المجتمعية والتحديات الصحية التي تواجه الأفراد في العالم العربي، مما يجعل محتواه مرجعًا مهمًا لكل من يبحث عن حياة صحية متوازنة قائمة على العلم والمعرفة.