التوحيد هو أعظم القضايا التي تناولها العلماء عبر التاريخ، إذ يمثل جوهر العقيدة الإسلامية وأساس الدين. لكن مع مرور الزمن ظهر جدل واسع حول أقسام التوحيد: هل هي ثلاثة فقط كما استقر عند جمهور أهل العلم، أم هناك تقسيمات إضافية مثل توحيد الحاكمية الذي أشار إليه بعض الدعاة والمفكرين المعاصرين؟ هذا الجدل دفع كثيرين إلى البحث والتمحيص في النصوص الشرعية، لفهم التصنيف الصحيح وضبطه بما يتفق مع القرآن والسنة.
قائمة المحتويات
في هذا المقال نستعرض أقسام التوحيد كما وردت عند العلماء، ونقف على أبرز النقاشات التي دارت حولها، ونوضح كيف أثّر هذا الجدل في الفكر الإسلامي المعاصر.
معنى التوحيد وأهميته
التوحيد في اللغة يعني التفرد والإفراد، أما في الاصطلاح الشرعي فهو إفراد الله تعالى بما يختص به من ربوبية وألوهية وأسماء وصفات. التوحيد ليس مجرد مسألة نظرية، بل هو جوهر الدين وغاية الرسالة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾. وقد اتفقت كلمة العلماء على أن صحة العقيدة لا تقوم إلا على التوحيد الخالص لله، وأن الانحراف عنه هو أساس كل ضلال.
التقسيم الثلاثي للتوحيد
أغلب العلماء قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام رئيسية، وهي:
1- توحيد الربوبية
وهو إفراد الله بأفعاله، كالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير. فالقرآن مليء بالآيات التي تبين إقرار المشركين أنفسهم بربوبية الله، كقوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾. لكن هذا الإقرار لم يدخلهم في الإسلام، لأنهم لم يحققوا توحيد الألوهية.
2- توحيد الألوهية (العبادة)
وهو إفراد الله بالعبادة، فلا يُصرف شيء من أعمال القلوب أو الجوارح لغير الله، كالذبح والدعاء والاستغاثة والسجود. هذا هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم، إذ كان المشركون يقرون بربوبية الله، لكنهم صرفوا العبادة لغيره.
3- توحيد الأسماء والصفات
وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله ﷺ من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. فالله سبحانه “السميع البصير”، “العليم الحكيم”، وله الصفات العلا التي تليق بجلاله وكماله.

الجدل حول “توحيد الحاكمية”
في العصر الحديث ظهر من يطرح إضافة قسم رابع للتوحيد وهو توحيد الحاكمية. والمقصود به إفراد الله بالحكم والتشريع، وأنه وحده سبحانه له الحق في أن يُحكم بين العباد بما أنزل.
موقف الرافضين
جمهور العلماء يرى أن الحاكمية ليست قسماً مستقلاً، وإنما تدخل في أقسام التوحيد الثلاثة:
- تدخل في الربوبية لأن الله هو الحكم الكوني القدري.
- تدخل في الألوهية لأن التحاكم إلى شرع الله عبادة يجب إفراد الله بها.
- تدخل في الأسماء والصفات لأن من أسمائه “الحكم” و”الحكيم”.
وبالتالي لا حاجة لجعلها قسماً مستقلاً.
موقف المؤيدين
أما بعض المفكرين والدعاة فاعتبروا أن إبراز توحيد الحاكمية مهم في واقع الأمة اليوم، حيث كثرت القوانين الوضعية والاحتكام إلى غير شرع الله. فرأوا أن تخصيصه بالذكر يلفت الأنظار إلى خطورة هذه القضية، حتى لو كان داخلاً اصطلاحاً في الأقسام الثلاثة.
حجج كل طرف
- الرافضون للتقسيم الجديد يستدلون بأن التقسيم الثلاثي هو ما استقر عند العلماء منذ ابن تيمية وابن القيم وغيرهما، وأن فتح باب تقسيمات جديدة يوقع في الاضطراب.
- المؤيدون للحاكمية يرون أن ذكرها كقسم مستقل لا يعني إحداث أمر في الدين، بل هو من باب التنبيه على جانب مهمل، مثلما فُرِّق بين أنواع العبادات.
أقسام التوحيد في ضوء النصوص الشرعية
بالرجوع إلى القرآن الكريم نجد أن جميع صور التوحيد ترجع إلى الأصول الثلاثة:
- ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ → دليل على الربوبية والحاكمية معاً.
- ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ → دليل على الألوهية.
- ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ → دليل على الأسماء والصفات.
وهذا يعني أن أي صورة من صور التوحيد يمكن ردها إلى هذه الأقسام الثلاثة الجامعة.

“اقرأ عن: التوحيد في الدعاء“
البعد التاريخي للخلاف
لم يكن النقاش حول أقسام التوحيد جديداً في أصله، فقد ناقش العلماء منذ القرون الأولى مسألة التصنيفات في العلم. فمنهم من اكتفى بذكر التوحيد مطلقاً، ومنهم من قسمه إلى قسمين: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. ثم جاء من فصل أكثر وجعلها ثلاثة أقسام. أما في العصر الحديث فقد أُثيرت قضية الحاكمية في سياق مواجهة القوانين الوضعية والأنظمة السياسية غير المحكومة بالشرع.
أثر الجدل في الفكر المعاصر
هذا الجدل أثّر على الحركة الإسلامية والدعوية في القرنين الأخيرين، حيث أصبح مصطلح “توحيد الحاكمية” شعاراً لدى بعض الاتجاهات. بينما رأى آخرون أن تضخيم هذه المسألة قد يفتح أبواباً للغلو والفتنة، خاصة إذا استُخدمت كمعيار للحكم على الناس بالكفر أو الإيمان.
مواقف العلماء المعاصرين
- بعض العلماء شدد على رفض تقسيم التوحيد أكثر من ثلاثة أقسام، معتبرين ذلك ابتداعاً في الاصطلاح.
- آخرون تبنوا موقفاً وسطاً، فقالوا: لا مانع من ذكر الحاكمية كجزء مهم من التوحيد، لكن دون جعله قسماً مستقلاً.
- في كل الأحوال، اتفق الجميع على أن الحكم بما أنزل الله واجب، وأن من تركه استحلالاً أو جحوداً فقد وقع في الكفر.
هل الخلاف لفظي أم حقيقي؟
من خلال النظر في أقوال الطرفين يتبين أن أصل الخلاف في الغالب اصطلاحي لا جوهري:
- الجميع يقر بأن الحكم لله وحده.
- الجميع يرفض الحكم بغير ما أنزل الله.
- لكن الخلاف في هل يُذكر كقسم رابع أم يُدمج في الأقسام الثلاثة.
إذن النزاع أشبه بالجدل الاصطلاحي، لكن أثره في الواقع قد يكون كبيراً إذا تحول إلى وسيلة للطعن أو التفسيق.
“اقرأ أيضًا: مخاطر الضلال بالقرآن“
الدروس المستفادة
- التوحيد أصل جامع لا ينبغي أن يُختزل في جدل اصطلاحي.
- الاتفاق مقدم على الاختلاف، فالغاية واحدة وهي عبادة الله وحده.
- اللغة الاصطلاحية مرنة، ولا إشكال في اختلاف الألفاظ إذا لم يغير ذلك الحقائق.
- الواقع يحتاج إلى عمل أكثر من جدل، فالواجب تطبيق التوحيد في حياة الفرد والمجتمع.
“قد يهمك: زيارة محمد صلاح لمعبد بوذي“
أقسام التوحيد بين العلماء: خاتمة
قضية أقسام التوحيد تظل واحدة من أبرز المسائل التي ناقشها العلماء قديمًا وحديثًا. وبينما استقر جمهورهم على التقسيم الثلاثي: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فقد رأى آخرون أهمية إبراز الحاكمية كجانب تطبيقي معاصر.
ورغم حدّة الجدل أحيانًا، فإن جوهر الأمر أن الله سبحانه واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأنه وحده المستحق للعبادة والحكم والتشريع. وإذا كان الخلاف في جانب اصطلاحي، فالواجب أن يُدار بعلم وعدل، بعيداً عن التجريح والتشنيع. فالمسلم الحق هو من يحقق التوحيد قولاً وعملاً واعتقاداً، ويسعى لإفراد الله بالعبادة والطاعة، ويحتكم إلى شرعه في حياته كلها.

يعد كمال علي كاتبًا متخصصًا في الشؤون الإسلامية، حيث يقدم محتوى مميزًا يجمع بين الأسلوب السهل والطرح العميق. يكتب عن العقيدة، الفقه، السيرة النبوية، والتربية الإسلامية، مع الحرص على تبسيط المفاهيم الدينية لتكون في متناول الجميع.
يحرص كمال على أن تكون مقالاته مصدرًا للوعي الديني الصحيح، بعيدًا عن التعقيد أو الغموض، مع التركيز على إبراز سماحة الإسلام ووسطيته. كما يربط بين التعاليم الإسلامية والحياة اليومية ليجعل القارئ أكثر قدرة على تطبيق القيم الدينية في واقعه المعاصر.
إلى جانب ذلك، يولي اهتمامًا بمواضيع الشباب والأسرة والتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، مما يجعل كتاباته شاملة ومؤثرة.