بعد صلح الحديبية الذي كان نقطة تحول محورية في تاريخ الإسلام، اتجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى نهج جديد في الدعوة، متجاوزًا حدود الجزيرة العربية الضيقة إلى آفاق العالم الأوسع.
قائمة المحتويات
كانت الرسائل التي أرسلها إلى ملوك وزعماء الدول الكبرى في ذلك الوقت بمثابة دعوة عالمية للإسلام، ورسالة تحمل في طياتها الحكمة والموعظة الحسنة. فلقد بعث برسالته إلى هرقل قيصر الروم، وإلى كسرى فارس، وإلى المقوقس ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، والمنذر بن ساوى ملك البحرين، وغيرهم من حكام الأقاليم القريبة والمؤثرة.
غير أن هذا التوسع الدبلوماسي قد أثار تساؤلًا لدى كثيرين: لماذا لم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالة مماثلة إلى ملوك الترك، مع أن الترك كانوا يمثلون قوة بشرية وممالك كبيرة في وسط آسيا وشمال بحر قزوين؟ وهل كان هذا استثناءً مقصودًا، أم أن هناك أسبابًا منطقية لهذا الغياب؟ هذه المقالة تتعمق في الأسباب المحتملة التي قد تفسر عدم إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسالة مباشرة إلى ملوك الترك في تلك الحقبة، مستندة إلى التحليلات التاريخية والسياسية المستقاة من النص النبوي.
رسائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم العالمية بعد صلح الحديبية
كان صلح الحديبية علامة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية، حيث فتح الأبواب أمام المسلمين للتواصل مع الأمم الأخرى بعد فترة من الصراع مع مشركي الجزيرة العربية. استغل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة لبث رسالة الإسلام عالميًا، مؤكدًا على طبيعتها الشاملة لجميع البشر.
مضمون رسائل النبي صلى الله عليه وسلم
كانت رسائله تحمل دعوة صريحة ومباشرة إلى الإسلام، مبدأها “أسلم تسلم”، وهي تحمل في طياتها الحجة والبرهان. لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسائل إلى ثمانية زعماء وملوك عالميين على الأقل، كما ذُكر في السيرة النبوية.
الملوك الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم رسائل
- هرقل قيصر الروم: إمبراطورية قوية تحكم مناطق واسعة.
- أبرويز بن هرمز كسرى فارس: إمبراطورية عظمى أخرى مجاورة للجزيرة العربية.
- المقوقس ملك مصر: حاكم مصر، وكانت مصر ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبرى.
- النجاشي ملك الحبشة: ملك عادل كان قد آوى المسلمين الأوائل في الهجرة الأولى.
- المنذر بن ساوى ملك البحرين: حاكم إقليم البحرين القريب من الجزيرة العربية.
- جيف وعباد ابني الجلاندي ملكي عمان: حاكما منطقة عمان.
- هوذه بن علي الحنفي ملك اليمامة: حاكم منطقة اليمامة في وسط الجزيرة العربية.
- الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام: حاكم الحدود الشمالية للجزيرة العربية.
هذه الرسائل لم تكن مجرد دعوات عابرة، بل كانت تمثل تأسيسًا للدبلوماسية الإسلامية وعمقًا في استراتيجية نشر الدعوة، تستهدف القوى المؤثرة التي يمكن أن يكون لها دور في انتشار الإسلام أو في حماية أمن الدولة الإسلامية الوليدة.

ذكر الترك في الأحاديث النبوية: نبوءات لا رسائل
على الرغم من عدم إرسال رسائل مباشرة إلى ملوك الترك، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر الترك في أحاديث نبوية عديدة، مما يدل على علمه بهم وتنبؤه بدورهم المستقبلي. هذه الأحاديث لم تكن دعوات دبلوماسية، بل كانت نبوءات تتحدث عن أحداث ستشهدها الأمة الإسلامية لاحقًا.
أبرز الأحاديث النبوية عن الترك
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك” (رواه البخاري ومسلم). هذا الحديث يشير إلى مواجهات مستقبلية بين المسلمين والترك.
- وفي رواية أخرى لابن ماجه والبيهقي وغيرهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم”. هذا التوجيه يحمل في طياته وصية للحذر والتعامل الاستراتيجي مع هاتين الأمتين في المستقبل.
دلالات الأحاديث النبوية عن الترك
تُظهر هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على علم بوجود الترك وقوتهم، لكنه لم يتخذ معهم نفس النهج الدبلوماسي الذي اتبعه مع الروم والفرس. بل كانت التوجيهات النبوية ترسم مسارًا للتعامل المستقبلي معهم، والذي شهد بالفعل دخول أعداد كبيرة من الترك في الإسلام في القرون الهجرية المتأخرة، وتكوينهم لدول إسلامية عظمى كالسلاجقة والعثمانيين، الذين كان لهم دور عظيم في نشر الإسلام وحماية المسلمين.
هذا يقودنا إلى البحث عن الأسباب وراء هذا الاختلاف في التعامل النبوي.

السبب الأول: غياب التقاطعات الجغرافية والسياسية
السبب الرئيسي والأكثر منطقية لعدم إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إلى ملوك الترك يكمن في طبيعة العلاقات الجغرافية والسياسية في ذلك الوقت. كان النبي صلى الله عليه وسلم يركز دعوته الدبلوماسية على الممالك والدول التي تتقاطع حدودها أو مصالحها بشكل مباشر مع الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة وبقية الجزيرة العربية.
أبعاد غياب التقاطعات الجغرافية والسياسية
- الحدود الجغرافية: الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقع في الجزيرة العربية. أرسل النبي رسائل إلى الدول المجاورة جغرافيًا:
- الشمال: الشام، التابعة للروم (هرقل) وكان بها ملوك الغساسنة (الحارث بن أبي شمر).
- الشمال الشرقي: العراق، التابعة للفرس (كسرى).
- الشرق: البحرين (المنذر بن ساوى) واليمامة (هوذه بن علي الحنفي) وعمان (الجُلندى).
- الغرب: مصر (المقوقس) التي كانت تابعة للروم.
- التقاطعات السياسية والدبلوماسية: كانت هناك علاقات سياسية وتجارية قائمة أو محتملة مع بعض الدول مثل الحبشة، بسبب الهجرة الأولى للمسلمين.
- غياب التقاطع مع الترك: ممالك الترك كانت في عمق آسيا، خلف الإمبراطورية الفارسية، وبعيدة جدًا عن أي تواصل مباشر مع المسلمين.
لقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة هذا المنهج الحكيم. فعندما توسعت الدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، ووصلت حدودها إلى مناطق الترك بعد فتح فارس، بدأت الرسائل توجه إليهم بالدعوة إلى الإسلام، وكذلك حدث مع ملوك البربر في شمال إفريقيا بعد فتح مصر، ومع ملوك الأندلس وأوروبا الغربية عندما نشأت تقاطعات جغرافية أو سياسية.
“اطلع على: الأخطاء الشائعة في الصلاة“
السبب الثاني: افتقار الترك للخلفية عن الإسلام
السبب الثاني لعدم إرسال النبي صلى الله عليه وسلم رسائل إلى ملوك الترك يتعلق بافتقارهم لأي خلفية أو معرفة مسبقة بالإسلام أو حتى بالديانات السماوية.
مقارنة بين الملوك الآخرين والترك
- معرفة أهل الكتاب: مثل هرقل والمقوقس والنجاشي، كانوا على دراية بالكتب السماوية التي تحدثت عن النبي المنتظر، مما جعلهم أكثر قابلية لفهم الرسالة.
- المعرفة من الأحداث الجارية: بعض الملوك، مثل كسرى فارس ومنذر بن ساوى، كانوا على اطلاع بما يحدث في الجزيرة العربية من صراع الدعوة.
- غياب الخلفية لدى الترك: الترك كانوا يعتنقون الوثنية، وبُعدهم الجغرافي جعلهم في عزلة عن أخبار الإسلام.
أثر ذلك على استراتيجية الدعوة
لو أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالة إليهم دون معرفة مسبقة، لكان الرد غالبًا رفضًا أو عدم فهم، مما قد يغلق باب الدعوة في المستقبل. لذلك كانت الحكمة تقتضي الانتظار حتى تصل إليهم المعرفة تدريجيًا عبر الفتوحات والتقارب الجغرافي.
“قد يهمك: the Quran is the Word of Allah“
دحض حجة الخوف على الرسول
يُقدم البعض حجة مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل رسالة إلى ملوك الترك خوفًا على سلامة الرسول الذي سيحملها. لكن هذه الحجة لا تتوافق مع نهج النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته.
أمثلة على إرسال رسل في ظروف أخطر:
- أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس، وهو يعلم عداءه الشديد، وقد مزق كسرى رسالته بالفعل.
- أرسل إلى مسيلمة الكذاب، رغم علمه بخطر المهمة، وقد قُتل حامل الرسالة (حبيب بن زيد).
الرسالة أهم من الخوف على حياة الرسول
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتردد في إرسال الرسل حتى لو تعرضوا للخطر، لأن قيمة الرسالة أهم من حياة الأفراد. وبالتالي، فإن عدم إرسال رسالة إلى الترك لم يكن بسبب الخوف، بل لأسباب استراتيجية بحتة.
“اقرأ عن: جماعة الإخوان المسلمين“
عالمية الرسالة واستمرارية الدعوة
بالرغم من عدم إرسال رسالة مباشرة إلى الترك، فإن هذا لا يتعارض إطلاقًا مع عالمية رسالة الإسلام.
قال الله تعالى:
- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28).
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم: “فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍ… وأُرسِلتُ إلى الخلق كافة، وخُتِمَ بي النبيون” (رواه مسلم). النبي صلى الله عليه وسلم وضع الأسس، وأوكل للأمة بعده مسؤولية إكمال المسيرة. وهكذا وصل الإسلام إلى الترك وغيرهم من الأمم البعيدة، فأصبحوا جزءًا رئيسيًا من الأمة الإسلامية.
“اقرأ عن: Prophet Muhammad“
الخاتمة: حكمة نبوية ورؤية استراتيجية
إن عدم إرسال النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسالة إلى ملوك الترك في عهده لم يكن استثناءً أو إهمالًا، بل كان جزءًا من حكمة نبوية ورؤية استراتيجية عميقة.
- غياب التقاطعات الجغرافية والسياسية المباشرة.
- افتقار الترك للخلفية الدينية أو المعرفية التي تؤهلهم لتقبل الدعوة.
- الحفاظ على أبواب الدعوة مفتوحة مستقبلًا.
لقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الحكمة في الدعوة بحسب الظروف، فحينما تهيأت الأوضاع توسعت الدعوة وبلغت الترك وغيرهم. فأصبحوا قادة ودعاة وحماة للإسلام. وهكذا تظل رسالة الإسلام عالمية خالدة، وضعت أسسها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستكملتها الأمة عبر العصور.

يعد كمال علي كاتبًا متخصصًا في الشؤون الإسلامية، حيث يقدم محتوى مميزًا يجمع بين الأسلوب السهل والطرح العميق. يكتب عن العقيدة، الفقه، السيرة النبوية، والتربية الإسلامية، مع الحرص على تبسيط المفاهيم الدينية لتكون في متناول الجميع.
يحرص كمال على أن تكون مقالاته مصدرًا للوعي الديني الصحيح، بعيدًا عن التعقيد أو الغموض، مع التركيز على إبراز سماحة الإسلام ووسطيته. كما يربط بين التعاليم الإسلامية والحياة اليومية ليجعل القارئ أكثر قدرة على تطبيق القيم الدينية في واقعه المعاصر.
إلى جانب ذلك، يولي اهتمامًا بمواضيع الشباب والأسرة والتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، مما يجعل كتاباته شاملة ومؤثرة.