منذ فجر الوعي، شغل عقل الإنسان سر الوجود، وكيف تشكل هذا البناء الكوني المذهل الذي نعيش فيه. لطالما بحث عن إجابة مبسطة، عن معادلة واحدة أو رقم يختزل كل التعقيدات ويقدم فهمًا شاملاً. هذه الرغبة العميقة في تبسيط الكون هي ما دفع الفلاسفة والعلماء على مر العصور إلى محاولة فك ألغازه، مستعينين أحيانًا بالأرقام، وأحيانًا بالمعادلات المعقدة، وفي النهاية بالبحث عن الحقيقة المطلقة.
قائمة المحتويات
يقف الكون بتكوينه العجيب شاهداً على هندسة فائقة، حيث تتجمع الذرات والجزيئات لتشكل الكواكب والأقمار والنجوم والمجرات، وتتآلف عناصر التراب والطين لتنبثق منها صور الحياة المتعددة في النبات والحيوان والإنسان، بتراكيبها الخلوية المدهشة. هذا المقال سيتعمق في هذه الرحلة الفكرية الطويلة، مستعرضاً محاولات الإنسان لفهم الكون، بدءاً من شغف الفلاسفة بالأرقام ووصولاً إلى النظرة التوحيدية التي يقدمها الإسلام كحل جامع وبسيط.
رحلة الإنسان الأزلية نحو فهم الكون
لطالما كان الكون، بتكوينه الهائل ونظامه الدقيق، لغزًا يشد الإنسان لاستكشافه. منذ البدايات، أدرك البشر أن هناك نظامًا خفيًا يحكم الوجود، وأن هذا النظام ليس وليد العشوائية، بل هو نتيجة هندسة وقوانين محكمة. هذه الملاحظة الفطرية هي الشرارة الأولى التي أطلقت شرارة البحث والتساؤل.
النص القرآني يشير إلى أن الكون بدأ كسحابة من الدخان تكثفت لتشكل كل ما نراه اليوم من كواكب وأقمار ونجوم ومجرات، وأن الخالق أودع في الذرات والجزيئات خاصية التجمع لبناء هذه الوحدات المعمارية الكونية. وبنفس المنوال، من عناصر التراب والطين، انبثقت أشكال الحياة المتعددة التي نعرفها، من نبات وحيوان وإنسان، بتراكيبها المعقدة وأنسجتها الخلوية العجيبة التي لا تزال تبهر العلماء تحت الميكروسكوب.
غير أن هذا التجمع ليس عشوائياً، بل يحدث بناءً على هندسة وقوانين دقيقة، وكأن الكون كله عبارة عن وحدات معمارية متناسقة. هذه الفكرة ليست حديثة؛ فالعالم أينشتاين أمضى حياته كلها يبحث عن “قانون القوانين”، ذلك القانون الشامل الذي يفسر كل الوحدات المعمارية في الكون، لكنه رحل دون أن يتوصل إليه. بينما كان العلماء يسعون للمعادلات، كان للفلاسفة مسلك آخر، اتسم أحيانًا بالشطح في محاولاتهم لفهم هذا المعمار الكوني، شغلتهم ذات القضية وهي ملاحظتهم لهندسة الكون ونسبه وعلاقاته.
“قد يهمك: الأخطاء الشائعة في الصلاة“
شطحات الفلاسفة في فهم سر الكون بالأرقام
مع مرور التاريخ، انشغل الفلاسفة بمسألة المعمار الكوني، ولاحظوا بعينهم أن الكون كله عبارة عن هندسة ونسب وعلاقات دقيقة. وفي سعيهم لفك هذا اللغز، لجأ بعضهم إلى الأرقام كوسيلة لتفسير الوجود. ورغم أن بعض هذه النظريات قد تبدو ساذجة بمقاييس عصرنا الحالي، إلا أنها كانت في زمانها أفكارًا رائدة وحظيت بأتباع ومريدين.

- فيثاغورس وتقديس الرقم 10:
من أشهر هؤلاء الفلاسفة فيثاغورس وأتباعه، الذين قدسوا الرقم 10 وحلفوا به. كان منطقهم يقوم على ملاحظات بسيطة مثل عدد الأصابع (خمسة وخمسة)، وأن مجموع الأرقام الأولى الأربعة (1، 2، 3، 4) يساوي 10. كما ميز فيثاغورس بين الحقائق الأحادية، مثل الله سبحانه وتعالى كحقيقة واحدة، والحقائق الثنائية التي تمثل الأضداد المعروفة كالخير والشر، والظلمة والنور.
- إخوان الصفا وتوسعاتهم العددية:
جاء بعدهم إخوان الصفا، الذين توسعوا كثيرًا في ربط الأرقام بالكون والوجود. فاعتبروا الواحد رمزًا لله، والاثنين يعكس كل شيء خُلق زوجين في الكون، محاولين ربط كل الثنائيات بهذا الرقم. ثم انتقلوا إلى الثلاثة، مستشهدين بحقائق ثلاثية كثيرة مثل الحاضر والماضي والمستقبل في الزمان، والواجب والممكن والمستحيل في الفلسفة. وفي الرقم أربعة، ربطوا بين الفصول الأربعة والجهات الأربعة والعناصر الأربعة الأساسية (الماء والهواء والتراب والنار). أما الخمسة، فربطوها بالصلوات الخمس وأركان الإسلام الخمس، وحتى أنماط تجميع الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية التي تأتي في خمسة أنماط (حرف واحد، حرفين، ثلاثة، أربعة، أو خمسة).
- عشاق السبعة والتسعة عشر:
لم تتوقف الشطحات عند هذا الحد. فظهرت جماعات قدست الرقم سبعة، واستدلوا من القرآن والطبيعة على كثرة تكرار هذا الرقم، مثل السماوات السبع والأرضين السبع، والسنبلات السبع في قصة يوسف، وعدد مواطئ السجود، وحتى الحد الأدنى لشهور المولود ليولد حيًا.
ثم جاء من فُتن بالرقم 19، مستندين إلى آية قرآنية كريمة تتحدث عن خزنة جهنم وعددهم 19. ومنهم البهائيون، وهم فرقة خارجة عن الإسلام، الذين قدسوا هذا الرقم وجعلوا شهرهم 19 يومًا. كما قام رشاد خليفة، وهو أخصائي في الكمبيوتر وليس من الفرقة البهائية، ببحوث عددية في القرآن الكريم، مبرزًا أن البسملة 19 حرفًا وتكررت 114 مرة (19 × 6)، وزعم أن الحروف المقطعة في أوائل السور تتكرر في سورها بمضاعفات الرقم 19، رداً على من يقولون إن علم الساعة عند الله فقط، بأن هناك تلميحات ممكن إدراكها.
كل هذه المحاولات، على اختلافها، كانت تعبر عن فضول الإنسان الشديد ورغبته في معرفة “السر”، سر بناء هذا الكون العجيب، وتبسيطه في رقم أو نسبة يمكنه من فهم كل شيء. لكنها ظلت في مجملها محاولات ظنية، تحمل في طياتها نوعًا من الطرافة أكثر من الحقيقة العلمية المطلقة، وإن كانت تدل على إدراك الإنسان منذ القدم بأن الكون قائم على معمار ونسب وحسابات وهندسة.
“قد يهمك : زواج النبي من زينب بنت جحش”
“اطلع على: عقائد الشيعة في الصلاة“
بساطة التوحيد: الحل الجامع لسر الوجود

بعد كل هذه الشطحات والتخمينات التي حاول بها الإنسان فهم سر الكون، يأتي الإسلام ليقدم حلاً بسيطًا وواضحًا، يتجاوز تعقيدات الأرقام وشطحات الفلاسفة، ويركز على جوهر الوجود: التوحيد. لماذا نذهب بعيدًا إلى الأرقام المعقدة مثل 3 و7 و19، بينما يكمن السر كله في “الواحد”؟ إنها ميزة العقيدة الإسلامية السهلة والمباشرة، التي تدور كلها حول التوحيد، “لا إله إلا الله”.
- الوحدة كأساس للكثرة:
في الإسلام، الواحد هو الأصل والمنبع لكل الأعداد. من سير الواحد في مراتب الأعداد تنشأ جميع الأعداد، وفي التحليل النهائي، كل الأعداد تعود إلى الواحد. فلماذا الانشغال بالتفصيلات المعقدة بينما الأصل الجامع هو الواحد الذي يعطي جميع الأرقام ثم تنحل إليه جميع الأرقام في التحليل النهائي؟ هذا التبسيط العميق هو ما يميز النظرة الإسلامية.
- “لا إله إلا الله”:
كلمة ذات أبعاد شاملة: إن كلمة التوحيد في الإسلام لا تعني مجرد قضية عددية أو فلسفة مجردة، بل تتجاوز ذلك لتقدم موقفًا صريحًا وواضحًا بين كل التيارات الفلسفية. إنها تحدد للإنسان موقفًا أخلاقيًا، وتقدم حلولًا اجتماعية وسياسية. “شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم”؛ هذه الآية البسيطة ليست مجرد كلمات، بل هي فكر وفلسفة وتحديد موقف. عندما يقول الإنسان “لا إله إلا الله”، فإنه يحدد موقفه ويرفض كل الفلسفات التي تتعارض مع هذا المبدأ، فهي ليست مجرد قول باللسان، بل هي موقف وعقيدة راسخة.
- انعكاسات التوحيد على السلوك والأخلاق:
للتوحيد انعكاسات عميقة على سلوك الإنسان وأخلاقه. إذا صدق الإنسان بـ “لا إله إلا الله”، سيتغير سلوكه وأخلاقه جذريًا. إنها كلمة تحرير، تعني أنه لا يوجد قوي أو فاعل أو مميت أو ضار أو نافع إلا الله وحده. هذا التحرر من كل الآلهة المزيفة ينهي الخوف والتشتت. فبدلًا من أن تتشتت النفس بين آلهة متعددة، تخاف منها وتطمع فيها وتطيعها، يتوحد الخوف والطمع والطاعة والمسؤولية لله الواحد الأحد. هذا التوحيد يبسط حياة الإنسان، ويجمع شمل نفسه، ويمنحه شجاعة لا تضاهى.
- الطمانينة والسكينة من التوحيد:
عندما يدرك الإنسان أن النفع والضر بيد الله وحده، فإنه يتحرر من الخوف من المخلوقين. لا يخاف من الموت لأن الأعمار بيد الله، ولا يجزع من المرض لأنه قضاء من الله. هذا الفهم يمنح النفس طمأنينة وسكينة وتوكلًا عميقًا. تتجمع همة النفس على الله، وكأنها حبات سبحة منتظمة في خيط واحد، فتتبدل النفس المشتتة والقلقة إلى نفس مطمئنة، يدخلها النور والراحة من الداخل.
تتحرر النفس من التوزع والضياع لتصبح موحدة الهمة والهدف. إن معنى “لا إله إلا الله” بالنسبة للإنسان هو كمال أخلاقي، وطمأنينة وسكينة، وإنقاذ للنفس من التشتت بين الآلهة المزيفة، وجمع لهمتها على الله سبحانه وتعالى. إنها قوة أخلاقية وتوحيد للنفس في أبهى صورها.

فهم سر الكون: الخاتمة
تظهر لنا رحلة الإنسان الطويلة في فهم سر الكون، من أعمق التساؤلات الفلسفية إلى أحدث النظريات العلمية، شغفًا لا ينتهي بالبحث عن الحقيقة. لقد حاول الفلاسفة عبر التاريخ فك رموز هذا البناء الكوني العجيب باستخدام الأرقام والنسب، في محاولات تراوحت بين العبقرية والشطح، ولكنها غالبًا ما ظلت قاصرة عن تقديم الصورة الكاملة. وعلى الجانب الآخر، أمضى العلماء حياتهم في البحث عن قوانين شاملة، كما فعل أينشتاين، ولكنهم أحيانًا ما توقفوا عند حدود إدراكهم البشري.
إن بساطة العقيدة الإسلامية، المتمثلة في كلمة “لا إله إلا الله”، تقدم للإنسان إجابة شاملة ومحررة. إنها ليست مجرد رقم أو معادلة، بل هي مفهوم جامع يوحد النظرة للكون وللحياة. التوحيد يفسر الأصل والمنتهى، ويوحد مصادر الخوف والأمل، ويجمع شمل النفس المشتتة، مانحًا إياها الطمأنينة والسكينة والقوة الأخلاقية. وبهذا، يتحرر الإنسان من التشتت والعبودية لكل ما سوى الله، ويجد في هذا التوحيد الشامل مفتاح فهم سر الكون وسر وجوده ذاته، في بساطة متناهية وعمق لا يضاهى.

يعد كمال علي كاتبًا متخصصًا في الشؤون الإسلامية، حيث يقدم محتوى مميزًا يجمع بين الأسلوب السهل والطرح العميق. يكتب عن العقيدة، الفقه، السيرة النبوية، والتربية الإسلامية، مع الحرص على تبسيط المفاهيم الدينية لتكون في متناول الجميع.
يحرص كمال على أن تكون مقالاته مصدرًا للوعي الديني الصحيح، بعيدًا عن التعقيد أو الغموض، مع التركيز على إبراز سماحة الإسلام ووسطيته. كما يربط بين التعاليم الإسلامية والحياة اليومية ليجعل القارئ أكثر قدرة على تطبيق القيم الدينية في واقعه المعاصر.
إلى جانب ذلك، يولي اهتمامًا بمواضيع الشباب والأسرة والتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، مما يجعل كتاباته شاملة ومؤثرة.