معركة طابا: ملحمة دبلوماسية خالدة في تاريخ مصر الحديث

معركة طابا رمز الإرادة المصرية، حيث استعاد المصريون أرضهم بالوثائق والقانون بعد سنوات من الصبر والنضال حتى رفع العلم المصري في 19 مارس 1989

معركة طابا

التاريخ المصري حافل بالانتصارات العسكرية والدبلوماسية، لكن تبقى معركة طابا واحدة من أنصع الصفحات التي كتبت بمداد الإرادة واليقين. لم تكن مواجهة عسكرية بالرصاص والدبابات، بل كانت حربًا دبلوماسية وقانونية امتدت لسنوات طويلة، خاضها رجال الدولة المصرية ببراعة وحكمة حتى عاد الحق لأصحابه.

في 19 مارس 1989 ارتفع العلم المصري فوق أرض طابا، في مشهد لا يُنسى، أجهش فيه المصريون بالبكاء فرحًا، وشعروا أن تضحيات أجيال من الشهداء والمفاوضين لم تذهب سدى. هذه الملحمة أكدت للعالم أن مصر لا تفرط في شبر واحد من ترابها، وأنها تعرف كيف تدافع عن حقها حتى النهاية. في هذا المقال سنسرد تفاصيل معركة طابا: جذورها التاريخية، المفاوضات الشاقة، أوراق التحكيم، والأبطال الذين صنعوا النصر.


جذور النزاع على طابا

قصة طابا لم تبدأ في الثمانينيات، بل تعود جذورها إلى بدايات القرن العشرين. ففي عام 1906، وقع خلاف بين الدولة العثمانية والخديوي عباس حلمي الثاني حول ترسيم الحدود الشرقية لمصر. كان موقع طابا عند رأس خليج العقبة سببًا رئيسيًا في الأزمة، حيث حاول العثمانيون ضمها إلى أراضي فلسطين.

تدخلت بريطانيا – التي كانت تحتل مصر آنذاك – للضغط على السلطان عبد الحميد الثاني، وأُجبرت الدولة العثمانية على التراجع وقبول ترسيم الحدود رسميًا. وهكذا وُضعت اتفاقية 1906 التي حددت العلامة رقم 91 عند خليج العقبة كآخر نقطة في الحدود المصرية. هذه الوثائق التاريخية لعبت دورًا محوريًا لاحقًا في دعم الموقف المصري خلال التحكيم الدولي في الثمانينيات.


طابا بعد الحروب العربية الإسرائيلية

مرت العقود، وتغيرت خريطة المنطقة جذريًا بعد سقوط الدولة العثمانية، وقيام دولة إسرائيل عام 1948. احتلت إسرائيل مساحات واسعة من الأراضي العربية، بما فيها سيناء عام 1967 بعد نكسة يونيو. لكن نصر أكتوبر 1973 أعاد لمصر كرامتها العسكرية، وأجبر إسرائيل على الدخول في مفاوضات السلام التي توجت باتفاقية كامب ديفيد عام 1978، ثم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979.

بموجب المعاهدة، انسحبت إسرائيل من سيناء على ثلاث مراحل، آخرها في 25 أبريل 1982، الذي أصبح يومًا قوميًّا لمصر. غير أن إسرائيل أبقت على نزاع مفتعل في منطقة طابا الصغيرة، رافضة تسليمها، ما أشعل شرارة المعركة الدبلوماسية التي استمرت سنوات.


بداية معركة طابا الدبلوماسية

طابا مصر
طابا مصر

أعلنت مصر منذ البداية أنها لن تتنازل عن طابا تحت أي ظرف. فالمسألة لم تكن مجرد قطعة أرض مساحتها كيلومتر واحد، بل كانت مسألة كرامة وسيادة وطنية. رفضت إسرائيل الانسحاب من طابا بحجة وجود خلاف على العلامة الحدودية رقم 91. وسعت إلى فرض سياسة الأمر الواقع عبر بناء فندق في المنطقة وربطها بميناء إيلات.

لكن مصر تعاملت مع القضية بذكاء وصبر. فبعد الانسحاب الإسرائيلي من باقي سيناء، بدأت جولة مفاوضات طويلة مع إسرائيل (1982 – 1985)، عرضت خلالها القاهرة كافة الوثائق التاريخية التي تثبت ملكيتها لطابا. وعندما فشلت المفاوضات، لجأت مصر إلى التحكيم الدولي وفقًا للمادة السابعة من معاهدة السلام.


هيئة الدفاع عن طابا

في 1985 شكّلت مصر اللجنة القومية للدفاع عن طابا برئاسة السفير نبيل العربي، وضمت نخبة من الخبراء البارزين مثل:

  • الدكتور مفيد شهاب (رئيس قسم القانون الدولي بجامعة القاهرة).
  • المؤرخ يونان لبيب رزق.
  • الدكتور جورج أبو صعب.
  • اللواء بحري محسن حمدي.

هؤلاء الرجال خاضوا معركة وثائق، خرائط، شهادات، وصور تاريخية. لم يتركوا دليلاً إلا قدموه أمام هيئة التحكيم، واستطاعوا إقناع المحكمة بأحقية مصر في طابا.


جلسات التحكيم الدولي

عُقدت أولى جلسات التحكيم في جنيف عام 1986، واستمرت المرافعات حتى عام 1988. قدمت مصر 24 خريطة، بينها خرائط إسرائيلية، جميعها تثبت أن طابا داخل الحدود المصرية. كما استعانت مصر بشهادات شهود محايدين مثل جنود قوات الطوارئ الدولية الذين تمركزوا في طابا بعد العدوان الثلاثي عام 1956.

إحدى اللحظات الحاسمة كانت عندما ظهر حفيد الكولونيل باركر – الذي أشرف على ترسيم حدود 1906 – حاملاً صورة لجده عند العلامة 91 في طابا. كانت تلك الوثيقة بمثابة قنبلة قانونية قلبت الموازين تمامًا لصالح مصر.

“اطلع على النهضة العسكرية المصرية


الحكم التاريخي

في 29 سبتمبر 1988 أصدرت هيئة التحكيم حكمها النهائي بأغلبية 4 أصوات مقابل صوت واحد، قضت فيه بأن طابا (Taba) أرض مصرية خالصة. بكى الوفد المصري داخل قاعة المحكمة فرحًا، بينما علت صيحات التكبير في الشوارع المصرية. ورغم محاولات إسرائيل المماطلة بعد الحكم، اضطرت في النهاية للانسحاب.

“قد يهمك: اللاجئون والأمن القومي المصري


رفع العلم المصري على طابا

في 15 مارس 1989 انسحبت آخر وحدة إسرائيلية من طابا. وبعد أربعة أيام فقط، أي في 19 مارس 1989، ارتفع العلم المصري عاليًا فوق أرض طابا في احتفال شعبي كبير حضره الرئيس حسني مبارك. لم يكن هذا مجرد رفع علم، بل كان إعلانًا للعالم أن مصر لا تفرط في شبر واحد من أرضها، وأنها قادرة على استرداد حقوقها بالسلام كما بالقتال.

رفع علم مصر على طابا
رفع علم مصر على طابا

“اقرأ عن: الأخطاء الطبية في مصر


أهمية معركة طابا

  • درس في الصبر الاستراتيجي: أثبتت مصر أن التفاوض الطويل قد يكون أكثر صعوبة من المعارك العسكرية، لكنه في النهاية قد يحقق نفس النتيجة: استعادة الأرض.
  • تعزيز السيادة الوطنية: أكدت معركة طابا أن السيادة المصرية خط أحمر، لا يقبل المساومة أو التنازل.
  • نموذج يحتذى به في القانون الدولي: أصبحت طابا نموذجًا يُدرّس في الجامعات عن كيفية استخدام الوثائق والقانون الدولي لاسترداد الحقوق.
  • توحيد الشعب المصري: التفاف الشعب حول قضية طابا منح القيادة دعمًا قويًا، وأثبت أن وحدة الصف قادرة على صنع المعجزات.

“تعرف على: نظام البكالوريا في مصر


معركة طابا: الخاتمة

لقد كانت معركة طابا أكثر من نزاع حدودي؛ كانت ملحمة وطنية أثبتت أن مصر قادرة على حماية أرضها بكل الوسائل المتاحة. رفع العلم المصري في 19 مارس 1989 لم يكن نهاية معركة، بل كان بداية عهد جديد من الثقة الوطنية. إن طابا اليوم ليست مجرد مدينة سياحية جميلة على رأس خليج العقبة، بل رمز خالد لإرادة أمة لا تعرف الاستسلام. ويبقى الدرس الأهم: الحق لا يسقط بالتقادم، والأوطان لا تُباع ولا تُشترى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top