في زمن تكثر فيه الشبهات ويسهل فيه تداول المعلومات المغلوطة، يصبح لزامًا على الباحث عن الحقيقة التسلح بالمعرفة الصحيحة والفهم العميق لنصوص الشريعة الغراء. إن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وحفظها وفهمها على الوجه الصحيح هو صمام أمان للأمة من الانحراف والضلال. ومن بين الأحاديث التي قد يُساء فهمها، أو تُثار حولها الشبهات من قبل البعض، ما ورد عن زيارة سالم سبلان لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وما يتعلق بمسألة الحجاب بينهما.
قائمة المحتويات
يهدف هذا المقال إلى تقديم شرح وافٍ ومفصل لحديث سالم سبلان، مع إبراز مكانة العبد المكاتب في الشريعة الإسلامية، وتوضيح حكم الحجاب في هذه الحالة، ودحض الشبهات التي قد يثيرها البعض حول هذا الحديث الشريف، مؤكدين أن فهم النصوص في سياقها الصحيح هو السبيل الوحيد لإدراك عظمة التشريع الإسلامي وعصمة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
من هو سالم سبلان؟ وما هو مفهوم “المكاتب” في الشريعة الإسلامية؟
قبل الغوص في تفاصيل الحديث وحكم الحجاب، من الضروري التعرف على الشخصيات والمصطلحات الواردة فيه. سالم سبلان هو أحد التابعين الكرام، واسمه سالم بن عبد الله سبلان. كان من الرواة الثقات، وقد روى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها من الصحابة. لم يكن مجرد شخص عادي، بل كان له شأن في الرواية والعلم.
أما المصطلح الأهم في هذا الحديث فهو “المكاتب”. المكاتبة في الشريعة الإسلامية هي عقد يتم بين السيد وعبده، يتفقان بموجبه على أن يدفع العبد مبلغًا معينًا من المال لسيده على أقساط، أو يقدم خدمة محددة، مقابل أن ينال حريته عند إتمام هذا العقد.
خلال فترة المكاتبة، لا يزال العبد مملوكًا من الناحية الفقهية، لكن وضعه يختلف عن العبد العادي في عدة أحكام. هو في حكم “نصف الحر” أو “المتعتق”، فلا يجوز بيعه أو هبته، ولا يصح تصرفه في ماله إلا بمقدار الوفاء بعقد المكاتبة. وتعد المكاتبة من أسباب تحرير العبيد التي حثت عليها الشريعة الإسلامية، بل وجعلت للمكاتب نصيبًا من أموال الزكاة لمساعدته على سداد ما عليه، وذلك لما فيها من إعانة للعبد على نيل حريته وكرامته.
هذا الوضع الفريد للمكاتب هو مفتاح فهم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
رواية حديث سالم سبلان وتفاصيله الدقيقة
الحديث الذي يدور حوله النقاش هو حديث رواه سالم سبلان بنفسه، ويفسر بنفسه سلوك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. يقول سالم سبلان: “كنت آتيها مكاتبًا، ما تختفي مني، فتجلس بين يدي وتتحدث معي…” ويكمل الحديث حتى يقول: “…حتى جئتها ذات يوم فقلت: ادع لي بالبركة يا أم المؤمنين. قالت: وما ذاك؟ قلت: أعتقني الله. قالت: بارك الله لك، وأرخت الحجاب دوني”. وفي رواية أخرى: “فلم أرها بعد ذلك اليوم (بدون حجاب)”.
هذا الحديث نص صريح في الدلالة على أمرين هامين:
- وضعية المكاتب: أن سالم سبلان كان يأتي عائشة رضي الله عنها وهو في وضع “المكاتب”، أي العبد الذي يسعى لتحرير نفسه بدفع مال.
- تغير الحكم بانتهاء المكاتبة: أن عائشة رضي الله عنها لم تكن تحتجب منه في فترة مكاتبته، ولكن بمجرد أن أخبرها بأنه قد “أعتقه الله” (أي نال حريته الكاملة وأصبح حرًا طليقًا)، أرخت الحجاب دونه، أي احتجبت عنه مباشرة.
هذه التفاصيل الجوهرية من الرواية نفسها تحمل في طياتها الإجابة الشافية على أي تساؤل أو شبهة قد تطرأ.
“قد يهمك: التوحيد في الدعاء“
الفهم الصحيح لحديث سالم سبلان وحكم الحجاب

النقاش حول هذا الحديث غالبًا ما يدور حول لماذا لم تحتجب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من سالم سبلان. والإجابة، كما يتضح من نص الحديث، هي لكونه “مكاتبًا”. هنا تبرز نقطة مهمة في فهم الفقه الإسلامي، وهي أن لكل حالة حكمًا خاصًا بها.
لماذا لم تحتجب عائشة رضي الله عنها من سالم سبلان وهو مكاتب؟
اتفق الفقهاء على أن حكم المكاتب يختلف عن حكم العبد المملوك كليًا في بعض الأمور. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المكاتب في فترة مكاتبته لا يُعتبر أجنبيًا بالكلية، خاصةً إذا كان قد قضى جزءًا كبيرًا من مكاتبته أو كان له من الأمانة ما يجعل حكمه مقاربًا للحر في بعض الجوانب، خاصة فيما يتعلق بالدخول والخروج من البيوت والاطلاع على أهلها. وهذا الفهم مبني على أن الشريعة قد خففت في بعض الأحكام على المكاتبين لتيسير حصولهم على الحرية.
الرواية نفسها هي الدليل الأقوى. سالم سبلان، وهو الراوي المباشر للواقعة، يفسر سبب عدم الاحتجاب بوضوح، فيقول: “كنت آتيها مكاتبًا ما تختفي مني”. هذا يعني أن صفة “المكاتب” هي التي أباحت له ما لم يبح لغيره من الرجال الأجانب. هذا ليس استنتاجًا أو تأويلًا، بل هو تفسير الراوي نفسه للحدث.
“اقرأ أبضًا: السحر الروحاني“
إرخاء الحجاب: الدليل القاطع على فهم عائشة رضي الله عنها للحكم
الجانب الآخر الذي يعزز هذا الفهم هو ما حدث بمجرد أن أخبر سالم سبلان عائشة رضي الله عنها بأنه قد تحرر. فقد جاء في الحديث: “أرخت الحجاب دوني”. هذا السلوك من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهي من أفقه نساء الأمة وأعلمهن بالسنّة والأحكام الشرعية، يوضح بجلاء أن حكم عدم الاحتجاب كان مرتبطًا بصفته “مكاتبًا” فقط.
بمجرد زوال هذه الصفة وحصوله على الحرية، عاد حكم الحجاب ليأخذ مجراه الطبيعي، وهو الاحتجاب عن الرجل الأجنبي. لو كان الأصل أنها تحتجب منه في جميع الأحوال، لما كان هناك معنى لقولها “أرخت الحجاب دوني” بعد أن أعتق، بل لكانت محتجبة من قبل.
“اطلع على: فهم سورة التحريم“
دحض الشبهات حول حديث سالم سبلان
تتداول بعض الأقاويل والاتهامات الباطلة، خاصة من قبل من يتربصون بالإسلام وأعلامه، حول هذا الحديث، محاولين تشويه صورة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أو الطعن في عفافها. وهذا ديدنهم في استغلال أي نص لا يفهمونه أو يؤخذونه خارج سياقه للنيل من الإسلام.
الشبهة الأولى: كيف يرى سالم سبلان عائشة وهي تتوضأ؟
يستغل البعض عبارة “فأرتني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ…” ليزعموا أن سالم سبلان قد رأى عائشة رضي الله عنها في وضع لا يجوز، أو أنها كانت كاشفة جسدها أمامه.
هذا فهم خاطئ ومغلوط تمامًا للحديث.
أولاً: النص الأصلي للرواية يذكر: “فَارْتَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ فَتَمَضْمَضَتْ وَاسْتَنْثَرَتْ ثَلَاثًا وَغَسَلَتْ وَجْهَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَتْ يَدَهَا الْيُمْنَى ثَلَاثًا وَالْيُسْرَى ثَلَاثًا وَوَضَعَتْ يَدَهَا فِي مُقَدَّمِ رَأْسِهَا ثُمَّ مَسَحَتْ رَأْسَهَا مَسْحَةً وَاحِدَةً إِلَى مُؤَخِّرِهِ ثُمَّ أَمَرَّتْ يَدَيْهَا بِأُذُنَيْهَا ثُمَّ مَرَّتْ عَلَى الْخَدَّيْنِ”.
هذا الوصف لا يعني أبدًا كشف العورة، بل هو وصف لكيفية الوضوء. من المعروف أن الوضوء يتم بغسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والقدمين، وهذه الأعضاء ليست من العورات المغلظة.
ثانيًا: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تُعلم الناس، وكان تعليمها يشمل الرجال والنساء. ومن أساليب التعليم العملي هو الإرشاد أو التمثيل.
ليس من الضروري أن تكون قد كشفت ما يحرم كشفه، بل قد يكون الوضوء قد تم بوجود حجاب جزئي أو من وراء ساتر خفيف، أو ما إلى ذلك مما لا يتعارض مع الحشمة، خاصة وأن الحديث ذكر بعد ذلك مباشرة “ما تختفي مني”، مما يدل على أنها كانت تستر جسدها بما يلزم ما عدا الوجه والكفين وما يظهر عادة في حالة المكاتب.
“اطلع على: كشف الحقائق وراء الأسماء والأحكام“
الشبهة الثانية: الطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
إن محاولة الطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أو الإيحاء بأنها فعلت ما ينافي الحشمة أو الشرع، هو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً. أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد براها الله تعالى من فوق سبع سماوات في حادثة الإفك، وهي من أطهر نساء الأرض وأعلمهن. إن محاولات الطعن هذه لا تستند إلى دليل شرعي، بل هي مجرد افتراءات تعكس مرض قلوب أصحابها.
أهمية فهم السياق في الأحاديث النبوية
إن فهم سياق الأحاديث النبوية هو مفتاح التعامل معها بشكل صحيح، خاصة تلك التي قد تبدو غامضة أو مثيرة للتساؤلات لغير المتخصصين. حديث سالم سبلان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خير مثال على ذلك. فلو أُخذ الحديث بمعزل عن فهم وضع “المكاتب” في الشريعة، لربما أثار التساؤلات. لكن بوجود هذا الفهم، تتضح الصورة تمامًا.
“تعرف على: العلاقة بين موجة الحر الشديدة وخروج الدجال“
“قد يهمك: زيارة محمد صلاح لمعبد بوذي“
حديث سالم سبلان وعائشة أم المؤمنين: الخاتمة
في الختام، يتبين لنا أن حديث سالم سبلان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ليس فيه ما يدعو للشبهة أو الطعن، بل هو دليل على علم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وفقهها الدقيق لأحكام الشريعة، وكيف أنها كانت تلتزم بها حرفيًا، وتفرق بين الأحوال المختلفة. فكان سلوكها مع سالم سبلان متوافقًا تمامًا مع وضعه كمكاتب، وبمجرد زوال هذا الوضع وحصوله على حريته، عادت لتطبق حكم الحجاب الطبيعي مع الرجل الأجنبي.
إن الواجب على المسلم هو التحقق والتثبت من المعلومات، والرجوع إلى أهل العلم الراسخين عند مواجهة أي شبهة، بدلاً من الانسياق وراء الأوهام والأباطيل. فعفاف أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وحشمتهن أمر ثابت بالنصوص القطعية، ويزيده هذا الحديث وضوحًا وتأكيدًا عندما يُفهم في سياقه الصحيح.

يعد كمال علي كاتبًا متخصصًا في الشؤون الإسلامية، حيث يقدم محتوى مميزًا يجمع بين الأسلوب السهل والطرح العميق. يكتب عن العقيدة، الفقه، السيرة النبوية، والتربية الإسلامية، مع الحرص على تبسيط المفاهيم الدينية لتكون في متناول الجميع.
يحرص كمال على أن تكون مقالاته مصدرًا للوعي الديني الصحيح، بعيدًا عن التعقيد أو الغموض، مع التركيز على إبراز سماحة الإسلام ووسطيته. كما يربط بين التعاليم الإسلامية والحياة اليومية ليجعل القارئ أكثر قدرة على تطبيق القيم الدينية في واقعه المعاصر.
إلى جانب ذلك، يولي اهتمامًا بمواضيع الشباب والأسرة والتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، مما يجعل كتاباته شاملة ومؤثرة.