بابك الخرمي: من راعي غنم إلى كابوس يهز أركان الخلافة العباسية

اكتشف القصة المذهلة لبابك الخرمي، زعيم أخطر ثورة انفصالية مجوسية هزّت الخلافة العباسية لأكثر من 20 عامًا، باك الخرمي من يتيم إلى كابوس أذل الجيوش.

قصة بابك الخرمي

في صفحات التاريخ الإسلامي، تتجلى شخصيات عديدة تركت بصماتها سواء بالبناء والعمران أو بالتمرد والتخريب. ومن بين هذه الشخصيات التي مثّلت كابوسًا حقيقيًا للخلافة العباسية، يبرز اسم بابك الخرمي. رجل بدأ حياته يتيمًا يرعى الغنم، ليتحول إلى زعيم حركة انفصالية دموية، بلغت من الخطورة والوحشية ما كاد أن يودي بأركان الدولة العباسية ذاتها. قصة بابك الخرمي ليست مجرد تمرد عسكري، بل هي فصل مظلم من الصراع الفكري والديني، ومحاولة لإحياء أمجاد غابرة على أنقاض الدولة الإسلامية الناشئة.

هذه المقالة ستغوص في أعماق حكاية هذا الرجل الاستثنائي، أو “الوحش السياسي” كما وصفه البعض، مستعرضة نشأته، أسباب صعوده، أهدافه الخفية، ووحشية حركته الخرمية التي سفكت دماء مئات الآلاف من المسلمين، وحرقت القرى، وسبت النساء، وأقامت راية المجوسية بدلًا من راية الإسلام، وكيف استطاعت الخلافة العباسية، بعد عقود من الصراع الدامي، أن تضع حدًا لفتنته المروعة.


الخلافة العباسية على مفترق طرق: تربة خصبة للتمرد

لم تكن ثورة بابك الخرمي لتنمو وتستفحل لولا حالة الضعف والاضطراب التي كانت تمر بها الخلافة العباسية في بدايات القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). فبعد أن بلغت الدولة أوج قوتها وازدهارها في عهد هارون الرشيد، الذي مد نفوذها وسحق الخوارج وقلم أظافر الروم، توفي الرشيد سنة 193 هـ. لتبدأ بعدها حقبة جديدة عنوانها الصراع الداخلي المرير.

الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون

تُعدّ الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون، ابني الرشيد، على الخلافة نقطة تحول كارثية. فقد عزل الأمين أخاه المأمون من ولاية العهد، ما أشعل فتيل حرب دموية بين بغداد (مركز الأمين) وخراسان (معقل المأمون). هذه الحرب لم تحول بغداد إلى أطلال فحسب، بل عمّقت الانقسام بين العرب المؤيدين للأمين والفرس المؤيدين للمأمون.

ورغم انتصار المأمون ومقتل الأمين في 198 هـ، لم تهدأ الأوضاع. بل تجددت الفتن بتمرد إبراهيم بن المهدي، عم المأمون، الذي نصّب نفسه خليفة في رد فعل على سياسة المأمون الموالية للعلويين، بل وتخليه عن السواد شعار العباسيين إلى الأخضر شعار العلويين، واعتزامه نقل مقر الخلافة إلى مرو نكاية في العباسيين الذين فضلوا الأمين عليه لكون أمه هاشمية.

الانشغال الداخلي يفتح الباب للخرمية

في خضم هذا الصراع الداخلي العنيف، والذي استنزف طاقات الدولة وأبعدها عن مراقبة أطرافها، كانت أذربيجان تشهد حراكًا غير عادي، حركة انفصالية بدأت تتشكل في الخفاء، حركة لم يلتفت إليها أحد في البداية، لتتحول لاحقًا إلى أخطر تهديد وجودي للخلافة العباسية: حركة بابك الخرمي.


بابك الخرمي: شيطان الفرس وحاقد على العرب والإسلام

بابك بن بهرام، هذا هو الاسم الحقيقي للزعيم الذي سيُعرف لاحقًا باسم بابك الخرمي. نشأ يتيمًا في قرية تابعة لأردبيل، وعمل راعيًا للبقر والغنم. لكنه لم يكن راعيًا عاديًا؛ فقد كان يمتلك همة وطموحًا غير مألوفين. تعرف عليه زعيم الخُرّمية آنذاك، جاويدان، الذي استشعر فيه النجابة وقربه منه. بعد وفاة جاويدان، ادعت زوجته أن روحه قد حلت في جسد بابك، وزوجته، وولته زعامة الخرمية، مبشرة أتباعها بأن بابك سيحقق مجدًا لم يبلغه أحد من قبل أو بعد.

بداية الصعود

كانت هذه “النبوءة” بمثابة الشرارة التي أشعلت نار الطموح في نفس بابك الخرمي. بدأ بإعادة تنظيم الطائفة الخرمية، محولًا إياها من مجموعة خامدة إلى قوة مسلحة متعطشة للقتل وسفك الدماء. الأهم من ذلك، أنه منحها مشروعًا قوميًا دينيًا، هدف إلى إزالة الخلافة العباسية وإقامة دولة مجوسية على أنقاضها.

الحقد على الإسلام والعرب

تُشير الروايات إلى أن بابك كان من نسل أبي مسلم الخراساني، مؤسس الدولة العباسية، لكنه بدلًا من إحيائها، أقسم على تدميرها. فقد رأى في بني العباس غدرهم بأبي مسلم، فأقسم أن يثأر بسيف لا يبقي ولا يذر. كان في صدره نار الحقد على الإسلام ونار الحنين للمجوسية، دافعًا إياه ليعيد أمجاد الفرس قبل الإسلام، ويثأر مما يعتبره إهانة العرب لهم في القادسية وما تلاها. جمع بابك الخرمي حوله كل حاقد على الخلافة، وكل شرير وقاطع طريق، خاصة من الفرس والمجوس الذين كانوا يحلمون باستعادة نفوذهم.


عقيدة الدم والشهوة: وحشية الحركة الخرمية

لم تكن حركة بابك الخرمي مجرد تمرد سياسي، بل كانت ثورة ضد الإسلام كعقيدة وشريعة وأسلوب حياة، وثورة ضد العرب كجنس ولغة. لقد رفعت راية المجوسية، وأباحت الزنا وسفك الدماء، وأطلقت أتباعها لنهب أراضي المسلمين واغتصاب نسائهم وسبى أطفالهم.

بابك الخرمي البداية والنهاية
وحشية الحركة الخرمية

جعل بابك:

  • الزنا عبادة.
  • سفك الدماء رسالة.
  • هدفه إسقاط الخلافة وإحياء نار المجوس.

هذه العقيدة المنحرفة، التي استغلت جهل أهل المناطق الجبلية النائية وعزلتهم وعدم تأصل الإسلام في نفوسهم، إضافة إلى الفراغ السياسي الناتج عن الحروب الداخلية العباسية، مكنت بابك الخرمي من اجتذاب الآلاف. لقد كان يجمع بين الشجاعة والجلد وقوة الشخصية والفصاحة والفطنة والدهاء، ونجح في استغلال الظروف لصالحه.

توسعت حركة بابك لتشمل مناطق واسعة من أذربيجان وشمال غرب إيران وأجزاء من أرمينيا. أدت هذه الحركة إلى مقتل أكثر من ربع مليون مسلم، وإحراق القرى، وسبى النساء، وزرعت الرعب في قلوب الولاة والقادة والخلفاء، محولة جبال أذربيجان إلى مقابر لجنود الخلافة.

“قد يهمك: الرد على عبد الله الشريف


صراع الإرادات: المأمون والمعتصم ضد بابك الخرمي

واجهت الخلافة العباسية، ممثلة في المأمون، تحديًا صعبًا من بابك الخرمي. حاول المأمون، بعد أن استقر له الأمر في بغداد، تدارك الخطر، فأرسل جيشًا تلو الآخر للقضاء على هذه الحركة الخطيرة. لكن دون جدوى.

هزائم متكررة

كان بابك يرد الجيوش العباسية على أعقابها، أو يقطع عليها خط الرجعة، موقِعًا بها خسائر فادحة. بين عامي 204 و 214 هـ، انهزم ستة من قادة المأمون أمام بابك الخرمي، بين قتيل وناج وأسير. اعتمد بابك على:

  • حرب العصابات.
  • العمليات الخاطفة.
  • نصب الكمائن المحكمة في التضاريس الجبلية الوعرة.

كما أن عدم خبرة جيوش الخلافة بمسالك تلك المناطق، وعدم درايتهم بأساليب قتال بابك، ساهم في إطالة أمد الصراع.

انشغال المأمون

كان المأمون مشغولًا بحروبه ضد الروم، وثورات القبائل العربية في مصر، والعلويين في الحجاز واليمن، بالإضافة إلى انشغاله بفلسفة اليونان وامتحان العلماء بخلق القرآن. كل هذا حال دون تفرغه الكامل لمواجهة بابك الخرمي. لكنه استشعر الخطر قبل وفاته، فأوصى أخاه وخليفته من بعده، المعتصم، بضرورة القضاء على هذه الفتنة، آخذًا عليه العهود والمواثيق أن يتجرد لها بكل طاقته حتى لا يسقط الإسلام بشكل كامل.


المعتصم والأفشين: نهاية أسطورة بابك الخرمي

بعد وفاة المأمون عام 218 هـ، بادر المعتصم، الذي كان رجلًا عسكريًا من الطراز الأول وشجاعًا ذا همة عالية، بتنفيذ وصية أخيه. لم يكن المعتصم متعلمًا كالمأمون، لكنه كان قائدًا فذًا. اختار بنفسه القادة والجنود، لأنه أدرك أن هذه الحرب ستكون فاصلة.

بابك الخرمي راغب السرجاني
نهاية أسطورة بابك الخرمي

خطة المعتصم

  • قطع أذرع الحركة الخرمية في جبال شمال غرب إيران.
  • تعزيز وجود الخلافة في المناطق المحيطة بـ “البذ” معقل بابك.
  • إرسال طلائع لتمهيد الطرق وترميم الحصون.
  • تجهيز جيش كبير بقيادة أعظم قواده: الأفشين.

الأفشين في الميدان

خرج الأفشين على رأس جيش عرم عام 220 هـ، وهو قائد محنك أجاد فنون الحرب. أجزل له المعتصم في النفقة، ومدّه بالعساكر، ووضع فيه ثقته الكاملة.

  • عسكر الأفشين في أذربيجان.
  • وزع قواده لتأمين الطرق والحصون.
  • اتبع استراتيجية حذرة ومنظمة.
  • اعتمد سياسة “قضم المناطق”؛ السيطرة التدريجية.

ظل الأفشين لأكثر من عام وهو يضيق الخناق على بابك الخرمي، ويسدد له الضربات الموجعة، ويوقع بكبار قادته. حتى سقطت مدينة “البذ” الحصينة عنوة في رمضان عام 222 هـ، وأسر الأفشين أهل بابك وأولاده، وأخذ أمواله، وأحرق قصوره، وقتل عددًا كبيرًا من الخرمية.

“اطلع على: حد الرجم في الإسلام


سقوط الطاغية: نهاية بابك الخرمي

لم يُلقَ القبض على بابك الخرمي أثناء اقتحام “البذ”، بل فرّ هو وأخوه وبعض خاصته. وصل إليه الأمان من المعتصم، مصحوبًا برسالة من ابنه الأسير يطلب منه القبول، بعد أن اكتشف الأفشين مخبأه. لكن بابك، في غطرسة وإصرار على العناد، قتل أحد الرسولين ومزق الأمان وشتم ابنه، رافضًا الاستسلام.

المطاردة والقبض

واصل بابك فراره عبر جبال أرمينيا، ولكن الأفشين لم يهدأ له بال. جعل المعتصم مكافأة ضخمة لمن يأتي بـ بابك حيًا (ألف درهم) أو برأسه (مليون درهم). كما أرسل الأفشين رسائل شديدة اللهجة إلى ملوك أرمينيا، الذين كانوا يتعاطفون مع بابك بغضًا في الإسلام، يحثهم على القبض عليه.

والمصادفة، أن أحد الرعاة شك في بابك ورفاقه بينما كانوا يعبرون أراضي إحدى مقاطعات أرمينيا. أبلغ الوالي الذي دبر حيلة لاعتقالهم. تم تقييد بابك ورفاقه، وتسلمهم الأفشين على رأس 4000 فارس. نال الأمير الأرمني الجائزة العظمى والتنازل عن خراج مقاطعته لمدة 20 عامًا.

النهاية في سامراء

حُمل بابك الخرمي إلى سامراء ليحاكم هناك. كان يوم وصوله يومًا مشهودًا، خرج فيه المعتصم والوزراء لاستقبال الأفشين الفاتح. بعد أيام قليلة، نُفذ في بابك الخرمي حد الحرابة أمام الناس في شوارع سامراء:

  • قُطعت يداه ورجلاه.
  • ثم قُطع رأسه وطيف به في سامراء وخراسان.
  • صلبت جثته عبرة لمن يعتبر.

الغريب أن بابك لم يظهر أي جزع أو خوف أو ندم، بل ظل على عناده حتى النهاية، مما أثار دهشة المعتصم.

“تعرف على: تاريخ الدول والخلافات الإسلامية الكبرى


الخاتمة: عبرة التاريخ ودرس الصمود

بهذه النهاية المأساوية، طُويت صفحة بابك الخرمي و حركته الخرمية، التي روعت البلاد والعباد لأكثر من 20 عامًا. لقد هزت هذه الفتنة الخلافة العباسية هزًا عنيفًا، وكادت تسقط هيبتها وتستنزف خزائنها وتكلفها مئات الآلاف من القتلى من الجنود والمتطوعين. بل لقد منحت الروم الفرصة لكسر الحاجز النفسي الذي أقامه الرشيد، وشن هجماتهم على ثغور المسلمين، مما أدى لاحقًا إلى فتح المعتصم لعمورية.

إن قصة بابك الخرمي ليست مجرد سرد لأحداث تاريخية، بل هي عبرة عن خطورة الفتن الداخلية، وأثر الانشقاقات السياسية على تماسك الدول، وكيف يمكن أن تتحول الطموحات الشخصية والأحقاد العرقية إلى حركات دموية مدمرة.

كما أنها تبرز قوة العزيمة والإصرار التي امتلكها قادة كالمعتصم والأفشين في مواجهة التحديات الكبرى، وصمود الدولة الإسلامية أمام أخطر الحركات الانفصالية التي سعت إلى محو وجودها وإحياء الماضي الوثني على حساب مستقبل الأمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top