“لا إحنا بنروح السعودية عشان ناخد فلوس.” كلمات صريحة قالها الفنان المصري بيومي فؤاد، تختصر العلاقة المتشابكة بين الفن والمال، وتحديداً بين الفنانين المصريين والمشهد الترفيهي السعودي. لطالما كان موسم الرياض، بفعالياته الضخمة وأضوائه البراقة، بوابة رزق ذهبية للفنانين المصريين، ووجهة جذب لكل مبدع. لكن فجأة، تعصف رياح التغيير بهذه العلاقة الوطيدة، ويقرر المستشار تركي آل الشيخ، عراب الترفيه في المملكة، إغلاق هذه البوابة أمامهم. فما الذي جرى؟ ولماذا انقلبت الموازين بهذه السرعة؟ وهل الأمر يقتصر على خلاف فني، أم أنه مؤشر لتوتر أعمق بين القاهرة والرياض؟
قائمة المحتويات
هذا التطور الأخير، الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الفنية والسياسية على حد سواء، يكشف عن ديناميكيات معقدة تتجاوز حدود المسرح والشاشات. فبينما يرى البعض فيه مجرد قرار تنظيمي أو توبيخ سلوكي، يرى آخرون أنه انعكاس لتوترات جيوسياسية كامنة، بدأت تظهر على السطح بعد فترة من الدفء الظاهري. هذه المقالة ستغوص في تفاصيل هذا القرار الصادم، وتكشف ردود الفعل المتباينة، ثم تنتقل لتحليل الأبعاد الاقتصادية والسياسية الخفية التي قد تكون وراء هذا التوتر المتصاعد بين دولتين محوريتين في العالم العربي.
القرار الصادم: استبعاد الفنانين المصريين من موسم الرياض
جاء الإعلان مفاجئاً، وقعه المستشار تركي آل الشيخ، رئيس الهيئة العامة للترفيه في السعودية، والذي كان يُنظر إليه في وقت سابق على أنه “صديق المصريين” والمروج الأبرز للفن المصري في المملكة. خرج آل الشيخ ليُعلن أن فعاليات الموسم القادم ستكون “حكراً على الفنانين السعوديين”، مع تقديم فرص للفنانين السوريين والعروض العالمية، مُتجاهلاً بشكل لافت ذكر أي دور للفنانين المصريين. هذا التجاهل كان بمثابة صفعة غير مباشرة، خاصة وأن الفنانين المصريين هم من حملوا على عاتقهم جزءاً كبيراً من نجاح موسم الرياض وفعالياته منذ انطلاقته، وحظوا بإعجاب وتقدير الجمهور السعودي وآل الشيخ نفسه، لدرجة أن بعضهم حاز على الجنسية السعودية.
تساؤلات كثيرة طُرحت بعد هذا القرار: ما الذي دفع آل الشيخ لاتخاذ مثل هذا الموقف الحاسم؟ وهل هو قرار شخصي أم يعكس توجهاً أعلى؟ الإجابات الأولية جاءت من الإعلامي المصري، سعودي الجنسية، عمرو أديب، الذي حاول تبرير القرار بمنشور طويل تحدث فيه عن “نفاد صبر السعودية” من الحملات “المغرضة والهجومية” التي تتعرض لها المملكة من قبل جهات مصرية، مشيراً إلى شركة إعلامية معينة دون تسميتها.
هذا التبرير، وإن كان يضع اللوم على “حملة إعلامية”، إلا أنه أكد وجود توترات دفعت باتجاه هذا الاستبعاد. في المقابل، جاء رد الفنان المصري محمد هنيدي، الحائز أيضاً على الجنسية السعودية، أكثر دبلوماسية، حيث اكتفى بتقديم الشكر للسعودية على ما قدمته له ولزملائه وللفن المصري عموماً، متجنباً الخوض في أسباب القرار أو تبريره. هذه التباينات في ردود الفعل الأولى تشير إلى حجم الصدمة والارتباك الذي أصاب الوسط الفني المصري.
“قد يهمك: حروب الظل على النيل“
ردود الفعل المصرية: بين الغضب والترقب
لم يكن رد فعل المصريين موحداً إزاء قرار استبعاد الفنانين من موسم الرياض. انقسم الشارع المصري والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي إلى معسكرين رئيسيين: الأول، وهو ما يمكن وصفه بـ “الشامت”، اعتبر القرار بمثابة عقاب للفنانين الذين “باعوا أنفسهم للرياض” على حد وصفهم، ورأوا فيه نتيجة طبيعية للارتهان للمال السعودي. هذا التيار عبّر عن رضاه عن “درس” تلقاه الفنانون الذين يُعتقد أنهم أهملوا قضايا وطنهم أو شعبهم مقابل المكاسب المادية.
أما المعسكر الثاني، فقد اعتبر كلام آل الشيخ هجوماً مباشراً على الفن المصري ورموزه، ورد الهجوم بالهجوم، منددين بما رأوه استخفافاً بدور الفنان المصري وتاريخه الفني الطويل.
تجاوزت ردود الفعل حدود الوسط الفني والناشطين لتصل إلى أعلى المستويات. المفاجأة الكبرى كانت بخروج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتعليق، وإن كان بشكل غير مباشر، على هذه التطورات. في خطاب تجميعي تصالحي ودي، وجه السيسي رسالة موحدة للشعوب العربية، قائلاً: “أوعى يا إنسان يا مصري يا عربي يا سعودي يا إماراتي يا كويتي”. هذه الرسالة، التي جاءت في سياق عام وليس خاص بالخلاف، تشي بأن الأزمة بين البلدين قد وصلت إلى نقطة حرجة تستدعي تدخل “الكبار”، أي قادة الدول، لتهدئة الأوضاع ومنع تفاقمها. وهذا يؤكد أن ما حدث في موسم الرياض ليس مجرد خلاف حول الترفيه، بل هو مؤشر على شرخ أعمق.
من الناحية الاقتصادية، كانت مكاسب المصريين من موسم الرياض كبيرة، والاستفادة المادية كثيرة لآلاف العاملين في القطاع الفني بمصر. لم يكن أي فنان يجرؤ على انتقاد آل الشيخ أو موسمه، ومن كان يتجرأ على ذلك، كان يتم “عزله وقطع عيشه” كما يُقال بالعامية المصرية. المثال الأبرز على ذلك هو الفنان محمد سلام، الذي رفض المشاركة بمسرحية في الرياض بعد أحداث 7 أكتوبر تضامناً مع غزة، فكانت النتيجة توقف الرجل عن العمل تقريباً. هذا يوضح مدى النفوذ السعودي وقدرته على التأثير في حياة الفنانين المصريين ومسيرتهم المهنية، ما يجعل قرار الاستبعاد الأخير ذا تأثير اقتصادي بالغ على شريحة واسعة من العاملين في المجال الفني.
“اطلع على: القوات الخاصة المصرية“
النفوذ السعودي الاقتصادي على الفن المصري

لا يقتصر النفوذ السعودي في القطاع الفني المصري على موسم الرياض وحده، بل يمتد إلى سيطرة المملكة على جهات إنتاجية وناشرة كبرى تُغدق الأموال على الإنتاجات المصرية. السعودية تمتلك قنوات فضائية تشتري وتبث الأعمال الفنية، وشركات إنتاج وتوزيع، ومنصات عرض لا تتوقف عن تقديم المحتوى ليلاً ونهاراً. جزء كبير من هذا المحتوى كان يعتمد بشكل أساسي على الفن المصري والفنانين المصريين.
هذه السيطرة تعني أن الخسارة ليست مجرد عدم المشاركة في فعاليات موسم الرياض، بل هي خسارة سهلة للفن المصري بشكل عام، وحتى للاقتصاد المصري الذي يعتمد جزء منه على هذه الاستثمارات. فالمال السعودي، الذي وصف بأنه “كالرُز أو لا تأكله النيران”، كان يمثل شريان حياة لقطاع الفن في مصر. وبالتالي، فإن قطع هذا الشريان قد يؤدي إلى تبعات وخيمة على صناعة الفن المصرية التي تعاني أصلاً من تحديات عديدة.
لكن الخوف الأكبر لا يقتصر على الفن؛ بل يمتد إلى قطاعات أخرى حيوية، كالسياحة والاستثمار. فالمملكة العربية السعودية، ومعها الإمارات، كانت من أبرز الداعمين للاقتصاد المصري عقب إسقاط حكم الإخوان المسلمين، ووقفت بقوة إلى جانب القاهرة. هذا التاريخ من الدعم الاقتصادي يثير قلقاً أكبر بشأن تداعيات أي توتر في العلاقات، فقد تتسع رقعة التأثير لتشمل مجالات أوسع وأكثر أهمية للاقتصاد المصري.
“قد يهمك: فيضان إثيوبيا وتوشكى“
أبعد من الفن: الأبعاد الجيوسياسية للتوتر
إذاً، ما الذي يقف حقاً وراء كل هذا؟ هل هو مجرد انتقاد لتركي آل الشيخ، أم أن الأمر أكبر من ذلك؟ الواقع يؤكد أن قراراً بهذا الحجم، خاصة في دولة بحجم السعودية، لا يصدر عن رجل واحد، حتى لو كان مستشاراً بهذه الأهمية. آل الشيخ نفسه اعتاد على هجوم المصريين عليه، لا سيما في أيام سعيه للسيطرة على الرياضة المصرية، وكان يتسامح مع الشتائم من المدرجات دون رد فعل كبير. لذا، فإن قرار حرمان المصريين من موسم الرياض هو على الأرجح توجيهات من جهات أعلى وأكبر في السعودية، وبالتحديد القيادة في الرياض.
- الخلافات السياسية الكامنة: لماذا قد يكون حكام السعودية غاضبين من مصر؟ الإجابة تحتاج لشرح كبير وتفصيل، لأنه لا يوجد توتر ظاهر بين قيادتي البلدين، ولكن أيضاً لا يوجد “دفء” في العلاقات كما كان في السابق. الرياض والقاهرة ما زالتا تشتركان في ملفات عديدة، مثل الوضع في السودان أو استقرار البحر الأحمر. لكن تحت الطاولة، تنحصر المشتركات وتبرز الخلافات بشكل أكبر، مما يشير إلى وجود نقاط تباين حقيقية.
- ملف غزة: نقطة الخلاف المحورية: أبرز نقاط الاختلاف بين البلدين هو ملف غزة. السعودية، على عكس مصر، لها رؤية مختلفة تجاه القضية الفلسطينية، وتسعى للعب دور أكبر فيها. المملكة مقبلة على تطبيع محتمل مع إسرائيل، وترغب في تمهيد هذا الطريق وتبريره بتقديم مكاسب للفلسطينيين. جهودها الأخيرة، التي أسفرت عن عقد مؤتمر دولي بالتعاون مع فرنسا لدعوة العالم للاعتراف بدولة فلسطين، تؤكد هذا التوجه الذي قد يتعارض مع الأولويات المصرية في التعامل مع غزة والقضية الفلسطينية.
- سوريا وإيران: تباين في المواقف الإقليمية: لا يقتصر الاختلاف على غزة. ففي ملف سوريا، رحبت السعودية بعودة دمشق إلى الجامعة العربية، وسعت لدمجها في العالم العربي من جديد، بل وحملت “سوريا الجديدة” على أكتافها. هذا يتناقض مع موقف مصر الذي اتسم بالبرود والجفاء تجاه هذا التغيير. أما في ملف إيران، فقد سعت القاهرة مؤخراً للتقارب مع طهران، وهو أمر لا تفضله الرياض على الإطلاق، نظراً لتاريخ طويل من التنافس الإقليمي.
هذه الخلافات، التي تطورت إلى فتور في العلاقة، أدت إلى توتر قد يتصاعد أكثر في الأيام المقبلة، ما لم تتدخل قيادتا البلدين للاحتكام إلى الحوار. وهذا هو السيناريو الأقرب للواقعية؛ فالخلاف بين أكبر بلد عربي من حيث القوة العسكرية والسكان (مصر) وأكبر اقتصاد عربي (السعودية) لن يكون أبداً خلافاً عادياً. إن تفاقم هذا التوتر قد يؤدي إلى شرخ عميق في الساحة العربية، التي تعاني أصلاً من انقسامات وتحديات جمة، وسيدفع ثمنه الكثيرون على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
“قد يهمك: توطين صناعة أبراج الكهرباء في مصر“
الخاتمة: نحو تهدئة التوتر أم مزيد من التباعد؟
لقد كشفت قضية استبعاد الفنانين المصريين من موسم الرياض عن طبقات أعمق من التوتر بين مصر والسعودية، تتجاوز الجانب الفني والترفيهي لتصل إلى جوهر العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية. فالقرار، الذي بدا كإشارة تحذيرية أو عقابية، يشير إلى أن الاختلافات في الرؤى تجاه قضايا إقليمية حساسة، مثل غزة وسوريا وإيران، بدأت تنعكس على مستويات كانت في السابق محصنة نسبياً، كالعلاقات الثقافية والفنية.
المرحلة القادمة ستكون حاسمة. فإما أن تحتكم القيادتان إلى الحوار البناء وتعملان على رأب الصدع، لا سيما وأن البلدين يمتلكان تاريخاً طويلاً من التعاون والتنسيق في مواجهة التحديات الإقليمية، وإما أن تتسع هوة الخلاف، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة على استقرار المنطقة بأكملها. إن مصير العلاقات المصرية السعودية ليس مجرد شأن ثنائي، بل هو ركيزة أساسية لأمن واستقرار العالم العربي. والأيام القادمة وحدها ستكشف إلى أي مدى يمكن للفن أن يكون مؤشراً على أزمة سياسية، وإلى أي مدى يمكن للسياسة أن تعيد تشكيل وجه الفن والاقتصاد في المنطقة.

الاسم/ علي أحمد، كاتب متخصص في المقالات الإخبارية والترندات الحالية التي تشغل اهتمام الكثير من الأشخاص في الدول العربية، كما نقوم بنشر مقالات عامة متنوعة تُزيد من ثقافة القارئ العربي. لدينا خبرة طويلة في مجال المقالات الإخبارية والترندات والمقالات العامة المتنوعة، ونعتمد على المصادر الموثوق فيها لكتابة محتوى هذه المقالات. هدفنا هو إيصال المعلومات الصحيحة للقارئ بشكل واضح ومباشر.
يتميز علي أحمد بكتاباته التي تغطي مجموعة واسعة من المقالات العامة والأخبار العاجلة والموضوعات الرائجة. يجمع في طرحه بين السرعة في مواكبة الأحداث والدقة في نقل المعلومات، ليقدم للقارئ صورة واضحة وشاملة.
يركز على تحليل الأحداث بموضوعية وحياد، مع تقديم خلفيات مختصرة تساعد القارئ على فهم الخبر في سياقه. كما يعرض مقالات متنوعة حول الترندات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية، مما يجعل محتواه مناسبًا لجمهور واسع. كتاباته تعكس حرصًا على أن يكون الموقع دائمًا في قلب الحدث، مع محتوى جذاب يواكب اهتمامات القراء ويثير النقاش حول أبرز القضايا المعاصرة.