الأبواب الخلفية في الرقائق الإلكترونية: هل تحولت التكنولوجيا إلى سلاح صامت؟

Backdoors in Chips: Has Technology Become a Silent Weapon

اكتشف كيف يمكن للأبواب الخلفية في الرقائق الإلكترونية أن تهدد سيادتك الرقمية، تحقيق في اتهامات الصين لـ “إنفيديا” وتأثير حرب الشرائح على مستقبل الذكاء الاصطناعي والأمن القومي

تخيل عالماً حيث الأنظمة التكنولوجية الحيوية في دولتك، من شبكات الطاقة إلى أنظمة الدفاع والذكاء الاصطناعي، يمكن إيقافها أو التجسس عليها بضغطة زر واحدة. ليس هذا مشهداً من فيلم خيال علمي، بل هو جوهر اتهام خطير وجهته الصين مؤخراً ضد شركة “إنفيديا” الأمريكية العملاقة، مُدعيةً أن رقائقها المصممة خصيصاً للسوق الصيني تحتوي على “أبواب خلفية” (Backdoors) تسمح بالتحكم عن بعد في الأجهزة.

هذه المزاعم، إن صحت، تعيد تعريف مفهوم الحرب الحديثة وتثير تساؤلات وجودية حول السيادة الرقمية والتحكم التكنولوجي. فهل تحولت الرقائق الإلكترونية التي تدير عالمنا إلى أسلحة صامتة، قادرة على شل الدول دون إطلاق رصاصة واحدة؟

في هذا المقال، سنغوص عميقاً في تفاصيل هذه الحرب التكنولوجية الخفية، ونكشف عن الأبعاد الخطيرة للأبواب الخلفية في الرقائق الإلكترونية، وتأثيرها على الأمن القومي ومستقبل الذكاء الاصطناعي.


الحرب الخفية: الرقائق الإلكترونية ساحة الصراع الجديدة

ما نشهده اليوم ليس حرباً بالدبابات والصواريخ، بل هو “حرب الشرائح الإلكترونية” أو “المايكروتشيبس”، صراعٌ محتدم على “السيادة الرقمية” بين القوى العظمى، وتحديداً الولايات المتحدة والصين. هذا الصراع ليس بجديد؛ فغلاف مجلة “الإيكونوميست” في مارس 2018 كان بعنوان “معركة السيادة الرقمية”، مسلطاً الضوء على التنافس المحموم للسيطرة على التقنيات المتقدمة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي.

منذ عام 2022، بدأت الولايات المتحدة في فرض قيود صارمة على تصدير بطاقات الرسوميات القوية (GPUs) خارج حدودها، خاصةً إلى الصين. الهدف كان واضحاً: الحد من قدرة الصين على التطور في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أن هذه الشرائح هي العمود الفقري لتدريب النماذج اللغوية الضخمة، وتطوير أنظمة المراقبة الشاملة، وحتى الروبوتات العسكرية المستقلة. هذه القيود أثرت بشكل كبير على شركات مثل “إنفيديا”، التي تُعد اللاعب الأبرز في هذا المجال، وأجبرتها على البحث عن حلول بديلة للحفاظ على حصتها السوقية.


شريحة H20: حل وسط أم حصان طروادة؟

في خضم هذه القيود، وجدت شركة “إنفيديا” نفسها أمام خيارين صعبين: إما الانسحاب بالكامل من السوق الصيني الهائل، أو ابتكار شريحة تتوافق مع القيود الأمريكية وتستطيع البيع للصين. كان الحل هو تطوير شريحة “H20″، وهي نسخة معدلة تبدو على الورق أضعف من الشرائح المتطورة التي تبيعها “إنفيديا” للولايات المتحدة وحلفائها، لكنها لا تزال قادرة على دعم تطبيقات ذكاء اصطناعي متطورة، وتدريب نماذج لغوية ضخمة، وقد استخدمتها بالفعل شركات صينية كبرى مثل “ديب سيك” و”تانسون”.

بالنسبة لـ “إنفيديا”، كانت “H20” تمثل حلاً وسطاً يرضي الحكومة الأمريكية ويسمح للشركة بجني مليارات الدولارات من السوق الصيني. ولكن، في الكواليس، كانت هناك شكوك قائمة حول ما إذا كانت هذه الشريحة تحتوي على “ميزات” غير معلنة.

السؤال الذي طُرح وقتها هو: هل تم تصميم هذه الشريحة لتعمل بأمان، أم أنها صُممت لتُعطّل في اللحظة المناسبة؟ لم يكن أحد يعلم حينها أن ضغوطاً أمريكية خفية كانت تُمارَس، تشترط زرع وسيلة للتحكم في المنتجات التكنولوجية التي تُصدّر للدول المنافسة.


اتهامات الصين: “الجاسوس” داخل الشريحة

بعد أشهر من العمليات التجارية الطبيعية، وتصنيع “إنفيديا” لمئات الآلاف من رقائق “H20” وشرائها من قبل الشركات الصينية، فجرت الصين قنبلة مدوية في 30 يوليو 2025. فقد أعلنت السلطات الصينية رسمياً أنها استدعت مسؤولي “إنفيديا” واستجوبتهم بشأن وجود “مكون سري” داخل شريحة “H20” يسمح بتحديد مكان الجهاز وإيقافه عن العمل عن بعد. هذا البيان لم يكن مجرد شكوك تقنية، بل كان اتهاماً سيادياً مباشراً للحكومة الصينية لشركة “إنفيديا” بزرع “باب خلفي” أو “مفتاح قتل” (Kill Switch) في الرقائق.

إذا كان هذا الادعاء صحيحاً، فهذا يعني أن سيرفرات الذكاء الاصطناعي الصينية التي تحتوي على شريحة “H20” يمكن أن تتعرض لإغلاق مفاجئ، مسح بيانات، أو حتى إيقاف مشاريع بأكملها، ليس عبر اختراق خارجي، بل بأمر من شريحة يفترض أنها تخدم المشروع. بالتأكيد هذا الأمر خطر على التكنولوجيا العسكرية الصينية الحديثة.

على الرغم من نفي “إنفيديا” لهذه الادعاءات، إلا أن القضية أحدثت ضجة عالمية واسعة، وأعادت إلى الواجهة السؤال الأخطر: هل تفرض أمريكا زرع أبواب خلفية في التكنولوجيا التي تبيعها للمنافسين؟


هل الأبواب الخلفية ممكنة؟ تاريخ من التجسس التكنولوجي

التجسس التكنولوجي
التجسس التكنولوجي

في التالي عرض لقصص من تاريخ التجسس التكنولوجي:

فضيحة سوبر مايكرو (2018)

كشفت تقارير صحفية خطيرة في عام 2018 عن أن الصين زرعت شرائح صغيرة جداً بحجم حبة الأرز داخل لوحات الأم (Motherboards) لشركة “سوبر مايكرو” الأمريكية. هذه اللوحات بيعت لشركات عملاقة مثل “أمازون” و”أبل”، وكانت الشرائح تتجسس على البيانات وترسل تقارير دورية للحكومة الصينية. ورغم نفي الشركات وقتها، إلا أن جهات أمنية أمريكية أكدت صحة الأمر. ردت الشركات بسحب سيرفراتها ووقف صفقاتها مع “سوبر مايكرو”.

حادثة “مفتاح القتل” السورية

في أوائل الألفينات، كشفت تقارير عسكرية عن أن إسرائيل زرعت “زر تعطيل” في رادارات الدفاع الجوي السورية التي حصلت عليها من شركة وسيطة. في يوم هجوم إسرائيلي على منطقة دير الزور، تعطلت الرادارات تماماً، مما سمح للطيران الإسرائيلي بتدمير أهدافه دون أي مقاومة.

تُعرف هذه العملية في الأوساط الاستخباراتية بـ “Kill Switch Incident”، وتؤكد أن فكرة التحكم عن بعد في الأجهزة العسكرية موجودة وموثقة. هذه الأمثلة تؤكد أن زرع الأبواب الخلفية في الرقائق الإلكترونية ليس مجرد نظرية مؤامرة، بل هو تكتيك حربي وتجسسي أُستخدم في الماضي.


السياسة الأمريكية ومفهوم “التحكم الطارئ”

منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها الولايات المتحدة منع تصدير شرائح الذكاء الاصطناعي المتقدمة إلى الصين، كان هناك جدل كبير داخل الكونجرس حول كيفية ضمان عدم استخدام أي نسخ معدلة ضد المصالح الأمريكية. الوثائق التي ظهرت في تقارير أمريكية خلال عامي 2024 و2025 أشارت إلى أن بعض المشرعين طالبوا الشركات التكنولوجية الكبرى مثل “إنفيديا”، “إنتل”، و”إيه إم دي” بتطوير “آليات تحكم” في الشرائح التي يصدّرونها.

الهدف كان واضحاً: ضمان قدرة الحكومة الأمريكية على التدخل وقت الطوارئ، خاصةً في المعدات الحساسة التي تُباع لدول منافسة كالصين. الشركات لم تنكر هذه الطلبات، لكنها اكتفت بالقول إنها “ملتزمة بالقوانين”.


الذكاء الاصطناعي: السلاح الصامت الجديد

إننا نعيش في عصر أصبحت فيه التكنولوجيا سلاحاً صامتاً. تخيل دولة تبني نظام ذكاء اصطناعي متقدماً، يحلل البيانات، يدير المصانع، ويطور الأسلحة. فجأة، يتوقف النظام بالكامل. لا يوجد اختراق إلكتروني، لا يوجد هجوم إنترنت. فقط “زر” ضُغط عليه داخل الشريحة الأساسية للنظام.

الذكاء الاصطناعي اليوم لم يعد مجرد رفاهية؛ إنه يستخدم في التحكم في الطائرات بدون طيار، تحليل إشارات الأقمار الصناعية، التعرف على الأهداف في المعارك، وحتى إدارة الاقتصاد والأنظمة المالية. إذا تم إيقاف الشرائح التي تشغل هذه الأنظمة فجأة، فإنك تشل “عقل” الدولة.


السيادة الرقمية: المفهوم الأهم للأمن القومي

السيادة الرقمية
السيادة الرقمية

ما تواجهه الصين اليوم ليست مشكلتها وحدها، بل هي مشكلة تواجه العديد من الدول، حتى الغنية منها. فالدول تبني مراكز بيانات ضخمة، وتطور أنظمة مراقبة، وتعتمد اقتصاداتها بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي. لكن في النهاية، كل هذا يُبنى فوق شرائح يُتحكم في تصنيعها وبرمجتها من قبل دول أخرى. في العلوم السياسية، يُعرف هذا بـ “التبعية التكنولوجية”، وهي أخطر من التبعية الاقتصادية.


الخاتمة: إعادة تعريف الأمن القومي في عصر الرقائق

في الماضي، كان الأمن القومي يعني جيشاً قوياً، وحدوداً محمية، وأجهزة استخبارات. اليوم، أصبحت هذه المفاهيم غير كافية. الأمن القومي قد يكمن في شريحة صغيرة داخل كارت إلكتروني، أو “زر” غير مرئي.

  • السيادة الرقمية: لم يعد كافياً امتلاك شبكة إنترنت قوية. يجب على الدول أن تتحكم في بنيتها التحتية الرقمية بالكامل، من السيرفرات إلى الشرائح وحتى الأكواد البرمجية التي تشغلها.
  • التصنيع والتدقيق المحلي: رغم صعوبة تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في تصنيع الرقائق المتطورة، يجب أن تكون هناك كفاءات محلية قادرة على تحليل وتدقيق ومراجعة المكونات الصلبة (Hardware) قبل دمجها في أي جزء حساس.
  • التعاون في الأمن السيبراني: يجب على الدول المتقاربة العمل معاً في مجالات الأمن السيبراني وتبادل الخبرات والمعلومات.

على المستوى الفردي، الموضوع أكثر تعقيداً. فالمستخدم العادي لا يمكنه التحقق من وجود أبواب خلفية في هاتفه أو حاسوبه أو ساعته الذكية. لقد أصبحنا نعيش في زمن أصبحت فيه كل جوانب حياتنا إلكترونية: الدولة، البنوك، الإعلام، الجيوش، وحتى أفكارنا تتأثر بما يصلها من أجهزة إلكترونية تحوي شرائح لا نعرف ما بداخلها.

القضية ليست مجرد “إنفيديا” أو “الصين” أو “أمريكا”، أو حتى شريحة “H20” بعينها. إنها سؤال وجودي يجب أن نطرحه على أنفسنا كل يوم: هل ما زلنا نملك أدواتنا، أم أن التكنولوجيا قد امتلكتنا؟ فإذا لم يكن الزر في يدك، فإن القرار أيضاً ليس في يدك.

Leave A Reply

Your email address will not be published.