شهد العالم الإسلامي في العقود الأخيرة محاولات متزايدة لإعادة صياغة الدين، ليس من خلال الهجوم المباشر على القرآن أو السنة، وإنما عبر منهجيات خفية تتستّر بعبارات مثل “التنوير” و”الحداثة” و”تجديد الخطاب الديني”. ومن أبرز هذه المشاريع الفكرية الخطيرة ما يُعرف بـ الهرمنيوطيقا، أو ما يُترجم بـ “التأويلية”، التي تهدف إلى إخراج النصوص الشرعية عن معانيها الحقيقية ومراد الله منها.
قائمة المحتويات
الهرمنيوطيقا ليست مجرد منهج تفسير أكاديمي، بل مشروع أيديولوجي يتسلل تحت ستار الإصلاح ليحوّل الإسلام من دين شامل إلى مجرد فلكلور ثقافي أو طقوس روحية سطحية. وهو ما يجعلنا أمام تحدٍ فكري ومعرفي يتطلب كشف الأجندات وبيان المخاطر التي يحملها هذا المسار.
ما هي الهرمنيوطيقا؟
الهرمنيوطيقا مصطلح فلسفي غربي يُستخدم في الأصل لتأويل النصوص، خصوصاً الدينية منها، بمعزل عن المعنى المتوارث أو الإجماع العلمي والشرعي. الفكرة الأساسية فيها تقوم على نزع السلطة عن العلماء والمفسرين، وفتح النصوص لأي فهم شخصي أو ثقافي أو حتى أيديولوجي.
بهذا المعنى، تتحول النصوص القرآنية إلى نصوص مفتوحة على كل القراءات: حداثية، ماركسية، ليبرالية، أو حتى بوذية! وهذا بالضرورة يخرج الإسلام عن مراده، ليصبح مجرد مادة ثقافية قابلة للتشكيل حسب أهواء المجتمعات أو النخب الفكرية.
جذور الهرمنيوطيقا في الغرب
ظهرت الهرمنيوطيقا في أوروبا الحديثة مع فلاسفة مثل توماس هوبز، وجان جاك روسو، ومونتيسكيو، وجون لوك. هؤلاء لم يعلنوا إلحادهم صراحة، بل ركزوا على فصل النصوص الدينية عن التفسير الكنسي، ما أدى تدريجياً إلى تحويل المسيحية إلى مجرد طقوس شكلية بلا أثر تشريعي أو معرفي.
هذا المنهج كان بداية انهيار الدين في الغرب، إذ لم يُطرح الإلحاد بصورته المباشرة بدايةً، وإنما قُدّم تحت شعار “حرية التأويل” و”لا وصاية للكهنة”. وفي النهاية، انتهت أوروبا إلى العلمانية والإلحاد، بعد أن أُفرغ الدين من مضمونه.
كيف يتم توظيف الهرمنيوطيقا ضد الإسلام؟
في العالم العربي والإسلامي، ظهرت محاولات لتطبيق نفس النموذج الغربي على الإسلام عبر شعارات مثل:
- لا وصاية للعلماء أو الصحابة أو الإجماع.
- النص القرآني قابل لأي فهم وتأويل.
- ضرورة قراءة “تنويرية” وحداثية للتراث.
بهذه الطريقة، يُفصل المسلم عن علماء الأمة وسلفها الصالح، ويُفتح الباب لتفسيرات شخصية تؤدي في النهاية إلى صناعة “إسلام بديل” لا علاقة له بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

الإسلام البديل: من دين شامل إلى فلكلور
حين تُطبّق الهرمنيوطيقا على النصوص، يتحول الإسلام من منهج حياة كامل إلى مجرد ثقافة أو طقوس. يصبح الدين جلسات استرخاء تشبه البوذية، أو فولكلورًا شعبياً يُحتفل به في المناسبات. وهذا أخطر أشكال التحريف، لأنه لا يواجه الإسلام مواجهة صريحة، بل ينخر فيه من الداخل حتى يتحول المجتمع إلى “حفالة”، كما وصف بعض العلماء: لا صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة.
الهرمنيوطيقا والتنوير العربي
تبنّى عدد من المفكرين العرب مشروع الهرمنيوطيقا تحت مسمى “التنوير”. هؤلاء يهاجمون علماء السلف، ينكرون السنة النبوية، ويطالبون بتنقيح التراث. لكنهم في الوقت نفسه يرفعون شعارات براقة مثل “التسامح” و”التعددية” و”التعايش”.
خطورة هذا التيار أنه لا يصرّح بالإلحاد، بل يقدّم نفسه كجزء من الإسلام. يقول لك: “نحن لسنا ملاحدة، نحن نجدد الخطاب الديني”. لكنه في الحقيقة يزرع الشكوك في العقيدة والشرائع، ويمهد لتحويل الدين إلى مجرد قشرة بلا لب.
علاقة العلمانية بالهرمنيوطيقا
العلمانية والهرمنيوطيقا وجهان لعملة واحدة، كلاهما يهدف إلى إقصاء الدين عن الحياة العامة. العلمانية فعلت ذلك في السياسة والاجتماع، والهرمنيوطيقا تقوم بذلك من داخل النصوص. وبحسب الدراسات الغربية نفسها، فإن العلمانية كانت في كثير من الأحيان مرحلة انتقالية نحو الإلحاد. ففي الاتحاد السوفيتي مثلاً، اعتُبرت العلمنة خطوة ضرورية لإيصال الناس إلى الكفر بالله.

“تعرف على: السحر الروحاني بين البدع والشركيات”
أكاذيب العلمانيين حول التقدم
من أكبر الأوهام التي يروّجها دعاة العلمانية أن “التقدم مرهون بنبذ الدين”، ويستشهدون بتجربة أوروبا. لكن الحقيقة أن التقدم الغربي جاء من الثورة الصناعية في بريطانيا، التي ظلت دولة متدينة، ولم يكن ثمرة الفكر الإلحادي الفرنسي المتطرف. إذن، محاولة ربط النهضة بالتخلي عن الدين كذبة كبرى يراد تمريرها على المجتمعات الإسلامية.
“اقرأ أيضًا: سر الخليقة“
المثقف وخيانة الأمة
من أخطر ما يُعانيه العالم الإسلامي اليوم أن بعض المثقفين خانوا أمتهم، فصاروا يروجون للأفكار الغربية دون وعي أو بدافع التبعية. النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الرائد لا يكذب أهله”، أي أن المثقف أو المفكر لا بد أن يكون أميناً على وعي الناس، لا أن يضللهم. لكن الواقع أن بعض المثقفين صاروا أدوات في يد مشاريع التغريب، يزرعون الشكوك في الدين تحت شعار “التجديد”.
التلفيق: أخطر أسلحة الهرمنيوطيقا
من أساليب هذا التيار التلفيق بين الإيمان والإلحاد. فتجد شخصاً يدّعي أنه مسلم، لكنه في الوقت نفسه يتبنى أطروحات تنكر الوحي والنبوة. هذا التناقض ليس مجرد حرية فكرية، بل هو قنبلة فكرية موقوتة تهدف إلى هدم ثوابت الأمة.
“قد يهمك: الرد على الإلحاد“
الهرمنيوطيقا والإسلام: معركة بقاء
القرآن الكريم حذّرنا من هذا المسار في قوله تعالى: ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ [النساء: 115]. فالنجاة مرتبطة بالالتزام بما شرعه الله وفق فهم الصحابة وسلف الأمة. أما فتح النصوص لأي تأويل بعيد عن سبيل المؤمنين، فهو الطريق إلى الهلاك.
الهرمنيوطيقا وخطرها على الإسلام: الخاتمة
الهرمنيوطيقا ليست مجرد مصطلح أكاديمي، بل مشروع أيديولوجي يسعى لتفريغ الإسلام من مضمونه، وتحويله إلى مجرد طقوس أو ثقافة شكلية. خطرها يكمن في أنها لا ترفع شعار الإلحاد صراحة، بل تدخل من باب “التجديد” و”التنوير”.
ولذلك، فإن الوعي بهذه المخاطر وكشف الأجندات الفكرية الخفية هو نصف العلاج. علينا أن نتمسك بفهم السلف الصالح لكتاب الله وسنة نبيه، وأن ندرك أن أي مشروع يخرج النصوص عن معانيها هو في حقيقته مشروع هدم للدين.

يعد كمال علي كاتبًا متخصصًا في الشؤون الإسلامية، حيث يقدم محتوى مميزًا يجمع بين الأسلوب السهل والطرح العميق. يكتب عن العقيدة، الفقه، السيرة النبوية، والتربية الإسلامية، مع الحرص على تبسيط المفاهيم الدينية لتكون في متناول الجميع.
يحرص كمال على أن تكون مقالاته مصدرًا للوعي الديني الصحيح، بعيدًا عن التعقيد أو الغموض، مع التركيز على إبراز سماحة الإسلام ووسطيته. كما يربط بين التعاليم الإسلامية والحياة اليومية ليجعل القارئ أكثر قدرة على تطبيق القيم الدينية في واقعه المعاصر.
إلى جانب ذلك، يولي اهتمامًا بمواضيع الشباب والأسرة والتحديات التي يواجهها المسلم المعاصر، مما يجعل كتاباته شاملة ومؤثرة.