كمال الجنزوري: عبقري التخطيط ووزير الشعب الذي لم يُنسَ
Kamal El-Ganzouri
اكتشف مسيرة كمال الجنزوري، عبقري التخطيط ووزير الشعب المصري. مقال يكشف كفاحه ضد الفساد، إنجازاته الحكومية، وصراعاته مع السلطة، معلومات عن كمال الجنزوري

في صفحات التاريخ السياسي المصري، تبرز قامات وشخصيات تركت بصمات لا تُمحى، قامات ارتبط اسمها بالنزاهة والتخطيط الدقيق والوقوف بجانب الشعب. من بين هذه القامات الساطعة، يبرز اسم الدكتور كمال الجنزوري، الذي لم يكن مجرد رئيس وزراء عابر، بل كان “وزير الشعب” بحق، و”عبقري التخطيط” الذي حاول جاهداً أن يرسم مستقبلاً أفضل لبلاده، حتى وإن كان ثمن ذلك الصدام مع مراكز القوى والنفوذ. مقالنا هذا سيتتبع مسيرة هذا الرجل الاستثنائي، من نشأته المتواضعة إلى قمة السلطة، مروراً بإنجازاته البارزة وتحدياته الجسيمة، وصولاً إلى إرثه الذي لا يزال حاضراً في الذاكرة المصرية.
قائمة المحتويات
نشأة وبدايات الجنزوري: حجر الأساس لشخصية استثنائية
ولد كمال أحمد الجنزوري في يناير عام 1933 بقرية “جروان” التابعة لمركز الباجور بمحافظة المنوفية. كانت بداياته متواضعة كالكثير من أبناء القرى المصرية، حيث تلقى تعليمه الأولي في كُتّاب القرية، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ سليمان بيومي الجنزوري.
- الطفولة والاهتمام المبكر بالسياسة:
ما ميز “الجنزوري الصغير” لم يكن اللعب واللهو كباقي أقرانه، بل كان اهتمامه البالغ بالسياسة وأحوال البلاد. كان يقضي معظم وقته في الاستماع إلى الكبار، يستقي منهم الحكمة ويفهم خبايا الأمور، فتعلم مبكراً أن “يسمع أكثر مما يتكلم” وأن “يفكر قبل أن ينطق بأي كلمة”، وهي دروس شكلت شخصيته المتزنة والمتبصرة طوال حياته.
القاهرة ومسيرته الوظيفية الأولى: تحديات وصمود
في سن الثانية عشرة، اتخذ الجنزوري قراراً جريئاً بترك قريته والتوجه إلى القاهرة لاستكمال تعليمه. عاش هناك مع زوج أخته وعمه، وكلاهما كان منضماً لحزب الوفد، الحزب المهيمن على الحياة السياسية آنذاك. كان لتأثره بهما دور كبير في تعميق شغفه بالسياسة.
- التعليم والعمل المبكر:
تدرج الجنزوري في تعليمه حتى تخرج في كلية الزراعة عام 1957. بعد التخرج، وقبل التحاقه بالتجنيد، عمل كـ”خبير غلال” في أحد فروع بنك التنمية والائتمان الزراعي بالمحلة الكبرى. ورغم قصر هذه التجربة التي انتهت باستقالته بسبب سوء معاملة مديره، إلا أنها أظهرت مبدأً راسخاً لديه: عدم قبول الإهانة أو المساس بكرامته. بعد استقالته مباشرة، التحق الجنزوري بالجيش، وبعد انتهاء خدمته العسكرية، قُبل في منحة لدراسة الماجستير بالولايات المتحدة الأمريكية، ليُعيّن بعدها موظفاً بوزارة الزراعة، وتحديداً في قسم التسويق والإحصاء.
صعود عبقري التخطيط: من موظف إلى نائب رئيس وزراء
كانت نقطة التحول الكبرى في مسيرة كمال الجنزوري المهنية هي قراره الجمهوري بإنشاء “مكتب التخطيط” داخل كل وزارة. في وزارة الزراعة، وقع اختيار الوزير السيد أحمد المحروقي على الشاب المجتهد كمال الجنزوري، خاصة بعدما علم أن رسالة ماجستيره كانت في “التخطيط والمتابعة”.
المناصب التي تقلدها كمال الجنزوري
من هنا، بدأت مسيرة “عبقري التخطيط”. عمل الجنزوري أستاذاً مساعداً بمعهد التخطيط القومي، ثم وكيلاً لوزارة التخطيط، ثم محافظاً للوادي الجديد فبني سويف. كفاءته في التخطيط قادته إلى أن يصبح نائباً لوزير التخطيط، فمديراً لمعهد التخطيط، ثم وزيراً للتخطيط، وأخيراً نائباً لرئيس مجلس الوزراء، قبل أن يصل إلى سدة رئاسة الوزراء نفسها.
الحلم المؤجل: حكومة 1986 وقصة الشطب الأليم
في عام 1986، وبعد سلسلة من الأزمات التي تعرضت لها حكومة علي لطفي (حكومة “الحظ السيء”)، كان لا بد من التغيير. تواصل الرئيس محمد حسني مبارك مع كمال الجنزوري وكلفه بتشكيل الوزارة، لكن بشرط أن يترك له الوزارات السيادية.
- المفاجأة الصادمة:
بالفعل، نجح الجنزوري في تشكيل حكومته خلال عشرة أيام فقط. لكن في اللحظة الحاسمة، وقبل أداء اليمين مباشرة، كانت المفاجأة الصادمة: شطب مبارك على اسم الجنزوري ليضع مكانه الدكتور عاطف صدقي. السبب الذي تردّد لاحقاً هو وشايات مقربين لمبارك بأن الجنزوري “دماغه من نفسه ولا يسمع كلام أحد”. هذا الموقف المؤلم أدى إلى تأجيل وزارة الجنزوري لعشر سنوات كاملة، من 1986 إلى 1996.
فارق الرؤى: مقارنة مع حكومة عاطف صدقي
خلال فترة حكومة الدكتور عاطف صدقي، عمل كمال الجنزوري معه عن قرب. ولاحظ الجنزوري أن صدقي كان “رئيس وزراء هادئ جداً” لا يهتم بعنصر الوقت، حيث كانت الاجتماعات تتأخر وتبدأ متأخرة وتستمر لساعات طويلة تتخللها فترات غداء طويلة بهدف إظهار أن مجلس الوزراء “منعقد من طلعة النهار حتى نصف الليل”.
- المكايدات السياسية:
الأدهى من ذلك، كانت محاولات التشويه وحرق الأوراق التي تعرض لها الجنزوري من جانب مؤيدي عاطف صدقي، الذين كانوا يرون فيه منافساً قوياً على رئاسة الوزراء. ورغم كل هذه المكايدات، كانت ثقة الرئيس مبارك في حكمة الجنزوري تزداد يوماً بعد يوم، وهو ما تجلى في مواقف عديدة.
“اطلع على: قضايا مثيرة للجدل في مصر“
أزمة القروض العسكرية: حكمة في مواجهة التحديات
من أبرز المواقف التي أظهرت حنكة الجنزوري وبعد نظره كانت أزمة “القروض العسكرية” في نهاية عام 1989. كانت مصر قد حصلت على قروض عسكرية بفوائد مرتفعة جداً (11-14%)، مع بند يمنع السداد النقدي ويجبر على جدول سداد تمتد لـ25 عاماً.
الرؤية الاقتصادية الثاقبة
عندما اقترحت المجموعة الاقتصادية بمجلس الوزراء تحويل هذه القروض إلى تجارية لخفض الفائدة، كان كمال الجنزوري هو الوحيد الذي عارض هذا التوجه. بحجج قوية، أقنع الجنزوري الرئيس مبارك بأن الإبقاء على القرض عسكرياً يحمي مصر، ففي حال التعثر، يمكن للولايات المتحدة (United States) خصم الأقساط من المعونة العسكرية، بينما تحويله لتجاري سيمنحها الحق في الحجز على الأموال المصرية بالخارج. هذه الرؤية الثاقبة أنقذت مصر من ورطة اقتصادية كبرى.
وزير الشعب: حكومة 1996 وإنجازاتها الملموسة

مع نهاية عام 1995، وبسبب بطء وتيرة التنمية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، قرر الرئيس مبارك إقالة حكومة عاطف صدقي. في 2 يناير 1996، كلف مبارك كمال الجنزوري بتشكيل الحكومة، وخلال 48 ساعة فقط، أدت حكومة الجنزوري اليمين الدستورية.
إنجازات لصالح الشعب
كانت هذه الفترة بمثابة نقطة تحول، حيث شعر الشعب المصري لأول مرة بوجود حكومة “تراه وتحس به وتطبطب عليه”. كان أول قرارات الجنزوري هو الاجتماع الأسبوعي لجميع الوزراء والمحافظين، مع تعليمات واضحة بضرورة إحضار المشاكل وتقديم حلول لها. كما أعلن عن 15 برنامج عمل لمواجهة المشاكل الأمنية والاجتماعية وحل الأزمة الاقتصادية في مصر.
لكن الأهم، كان برنامج “مصالحة الشعب المصري” الذي بدأه الجنزوري. ألغى الضرائب والرسوم غير الدستورية، مثل ضريبة الدخل على العاملين بالخارج، وأمر برد 320 مليون جنيه للمصريين كانوا قد دفعوها كضرائب غير مستحقة. كما ألغى الضريبة على الأرض الفضاء وأعاد 280 مليون جنيه للمواطنين. وأصدر قراراً بصرف 110 ملايين جنيه للفلاحين تعويضاً عن خسائرهم بسبب المبيدات غير الفعالة التي وزعتها الحكومة السابقة.
قرارات لمكافحة الفساد
اتخذ الجنزوري قرارات ثورية لمكافحة الفساد والواسطة، ومنها:
- ألغى تأشيرات النواب الشخصية، وفتح مكتبه للجميع في أيام محددة.
- ألغى بعثات الحج المجانية لأعضاء مجلس الشعب.
- منع التوصيات في التعيينات الأمنية والعسكرية والقضائية.
- أكد أن العلاج على نفقة الدولة حق للمواطن المستحق فقط، وليس للواسطة.
- ألغى الموكب الرسمي لرئيس الوزراء، وأمر سيارته بأن تسير كأي سيارة أخرى بين الناس.
نفذت هذه القرارات الهامة بسرعة وفعالية، وأشرف على مشاريع قومية كبرى مثل توسيع المدن الجديدة (الشيخ زايد، 6 أكتوبر) ومشروع توشكى العملاق. كما حافظ على عملة الدولة وزاد من نسبة التنمية لتصل إلى 6.1%.
ثمن النزاهة: الصدامات والإطاحة
بينما كان الجنزوري يسعى لمصلحة الشعب والعمل على تحسين مستقبل الاقتصاد المصري، كانت هناك “مجموعة أخرى” داخل الدولة لا يهمها الشعب، سعت جاهدة للإطاحة به. أسماء مثل صفوت الشريف، بطرس غالي، يوسف والي، زكريا عزمي، عاطف عبيد، كمال الشاذلي ومحمد إبراهيم سليمان، نسجوا المؤامرات ضده.
صدامات بارزة مع السلطة
تجلت هذه الصدامات في مواقف عديدة:
- صدام اجتماع الوزراء: عندما حاول زكريا عزمي ترتيب اجتماع للوزراء مع مبارك دون علم الجنزوري، رفض الأخير ذلك وأكد لمبارك أن أرقام الموازنة لديه وحده.
- صدام مؤتمر “الجور”: رفض الجنزوري جلوس جمال مبارك على يمينه في مؤتمر دولي لعدم امتلاكه صفة رسمية، مما أدى إلى جلوس جمال في آخر القاعة. هذا الموقف أدى إلى توتر كبير في علاقته بأسرة الرئيس.
- “أنا عملت كده فعلاً”: إجابات الجنزوري التلقائية على طلبات مبارك البسيطة (مثل علاج سامي شرف) بأنه قد نفذها بالفعل، كانت تُفسّر على أنها تحدٍ لسلطة الرئيس وتأكيد على شخصيته المستقلة.
كل هذه المواقف، بالإضافة إلى الوشايات بأن الجنزوري يسعى لزيادة شعبيته تمهيداً لترشحه للرئاسة، أوغرت صدر مبارك. جاءت “الوقيعة” الكبرى عندما أبلغه زكريا عزمي أن الجنزوري “رفض” استقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في المطار، بينما كان الجنزوري قد طلب فقط أن يستقبله وزير آخر، مؤكداً أنه سيلتزم بحضور الاجتماع. هذه الكلمة الوحيدة (رفض) كانت كفيلة بإشعال غضب مبارك وإزاحة الجنزوري.
“قد يهمك: أسعار الأعلاف في السوق المصري“
الجنزوري بعد الرئاسة: العزلة والتكريم الأخير
بعد يومين فقط من حادثة باراك، وتحديداً في 5 أكتوبر 1999، فوجئ الجنزوري بطلب تقديم استقالة الحكومة بالكامل. حملة إعلامية شرسة قادها صحفيون مثل عادل حمودة وسمير رجب لتشويه صورته وحرق أوراقه، مقال بعنوان “المغرور” كان دليلاً على ذلك.
العزلة والإقصاء
بعد إقالته، تعرض كمال الجنزوري لإهانة نفسية ومعنوية شديدة. مُنع من التواصل مع أي شخصيات سياسية أو رجال أعمال، بل وحتى من التواجد في الأماكن العامة. كانت الإهانة المادية واضحة أيضاً؛ فبعد 20 عاماً من الخدمة في أرفع المناصب، بلغ معاشه 1500 جنيه فقط، ومكافأة نهاية خدمته 14000 جنيه، وهو مبلغ أقل بكثير مما كان يحصل عليه موظفون عاديون في ذلك الوقت، وقد قام بتوزيعه بالكامل على العاملين معه.
رغم محاولات بعض الدول العربية تكريمه، قوبلت طلباتهم بالرفض من الرئاسة المصرية. ظل الجنزوري في عزلة تامة، حتى بعد ثورة 2011، عندما عادت إليه الأضواء مرة أخرى، واستُعين به لتولي رئاسة الوزراء في فترة حرجة عام 2012.
الخاتمة: إرث رجل دولة بضمير حي
رحل كمال الجنزوري في مارس 2019، تاركاً خلفه إرثاً غنياً من النزاهة والعمل الدؤوب وحب الوطن. لم يكن الجنزوري مجرد مسؤول سياسي، بل كان نموذجاً لرجل الدولة بضمير حي، يضع مصلحة شعبه ووطنه فوق أي اعتبار شخصي أو سياسي.
كفاءته في التخطيط، وشجاعته في مواجهة الفساد، واستقلاليته في اتخاذ القرار، جعلت منه “وزير الشعب” الذي لا يزال اسمه يُذكر بالخير والاحترام. لقد أثبت كمال الجنزوري أن العمل العام يمكن أن يكون خدمة حقيقية للمواطنين، وأن الصدق والنقاء يمكنهما أن يحدثا فارقاً، حتى في أحلك الظروف السياسية. رحم الله كمال الجنزوري، الذي سيبقى اسمه محفوراً في تاريخ مصر كرمز للإخلاص والوطنية.