في عالم تتزايد فيه التحديات النفسية والضغوط الحياتية، يزداد بحث الناس عن بصيص أمل، وعن يد ترشدهم نحو السكينة والطمأنينة. هذا البحث المشروع، الذي ينبع من ضعف بشري وحاجة أصيلة، بات للأسف مطمعًا للعديد من الأفراد عديمي الضمير، الذين يتخذون من آلام الناس وحاجاتهم النفسية ورقة مساومة وميدانًا للاستغلال. لقد باتت ظاهرة الدخلاء والمتسللين إلى مجال الصحة النفسية، بوعودهم البراقة وادعاءاتهم الكاذبة، تمثل خطرًا داهمًا يهدد سلامة المجتمع ويزيد من معاناته.
قائمة المحتويات
هدف هذا المقال هو تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، والكشف عن الأساليب التي يتبعها هؤلاء المحتالون، وتحليل بعض النماذج الصارخة التي تمثل هذه الظاهرة، وذلك بهدف توعية الجمهور وتحصينهم ضد الوقوع في براثن النصب والاحتيال، وضمان وصول المساعدة الحقيقية لمن يستحقها. إن فهمنا لكيفية عمل هؤلاء المحتالين هو خطوتنا الأولى نحو حماية أنفسنا ومجتمعاتنا من أضرارهم.
ظاهرة الدخلاء في مجال العلاج النفسي: كيف يتم اصطياد الضحايا؟
تُعد ظاهرة الدخلاء والمحتالين في مجال الصحة النفسية من أخطر الظواهر التي تواجه مجتمعاتنا اليوم، وذلك لكونها تستغل الجانب الأكثر هشاشة في الإنسان: صحته النفسية ومشاعره. هؤلاء الدخلاء لا يمتلكون المؤهلات العلمية أو الخبرات الحقيقية التي تؤهلهم لممارسة العلاج النفسي، بل يعتمدون على مجموعة من التكتيكات المحكمة لخداع الجمهور واصطياد الضحايا.
أبرز تكتيكات الخداع
من أبرز هذه التكتيكات:
- “الكاريزما المزيفة” والقدرة الخارقة على الإقناع.
- تقديم أنفسهم في هيئة “خبراء” أو “معالجين” يمتلكون حلولًا سحرية لكل المشاكل النفسية.
- استخدام لغة مبهمة وعبارات فضفاضة تفتقر إلى الدقة العلمية مثل: “طاقة الشفاء” أو “العلاج الروحي” أو “تحسين الصورة الذهنية عن الله”.
- نسج قصص شخصية مؤثرة عن معاناتهم وكيف تغلبوا عليها لإظهار أنفسهم بمظهر الملهم.
الألقاب والشهادات المزيفة
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يذهبون إلى اختلاق “شهادات” و”ألقاب علمية” مزيفة. يُدرك المحتالون أن الجمهور ينجذب إلى الألقاب الأكاديمية مثل “دكتور” و”استشاري”، لذا فهم لا يتوانون عن شراء هذه الألقاب من كيانات وهمية أو “مزارع شهادات” غير معتمدة.
قد يدّعون:
- الحصول على درجات عليا من جامعات “دولية” أو “افتراضية” لا وجود لها.
- الانتماء إلى “بوردات عربية” أو “جمعيات مهنية” تبدو مرموقة لكنها في الحقيقة كيانات تجارية.
هذه الشهادات والتصديقات، التي قد تبدو رسمية للوهلة الأولى، هي في جوهرها مجرد أوراق لا قيمة لها، تستخدم فقط لإضفاء مصداقية زائفة على نشاطهم الاحتيالي.

الهدف الأساسي: الربح المادي
هدفهم الأسمى هو الربح المادي. يستنزفون أموال الضحايا من خلال:
- جلسات باهظة التكلفة.
- كورسات لا تقدم أي قيمة حقيقية.
- استغلال الدين أو الطب البديل أو التنمية البشرية كسلعة تباع وتشترى.
إن الوعي بهذه التكتيكات هو خط الدفاع الأول ضد الوقوع فريسة لهؤلاء المنتحلين.
قصة “دكتور لوف”: نموذج للخداع الطبي المحترف
لنفهم أبعاد هذه الظاهرة، لا بد من النظر إلى نماذج واقعية تكشف مدى جرأة هؤلاء المحتالين وقدرتهم على التلاعب. أحد أبرز هذه النماذج هو قصة الشاب الأمريكي “مالاكاي روبنسون”، المعروف بلقب “دكتور لوف” أو “دكتور الحب”.
- بداية القصة:
في عام 2016، وفي سن الثامنة عشرة فقط، قرر روبنسون أن يرتدي المعطف الأبيض وسماعة الطبيب ليفتتح عيادته الخاصة في ولاية فلوريدا، مطلقًا عليها اسم “مركز الميلاد الجديد الطبي”. المفارقة المذهلة هنا أن “دكتور لوف” لم يدخل كلية طب يومًا، ولم يحصل على أي شهادة علمية حقيقية تخوله لممارسة الطب. لكنه كان يمتلك سلاحًا آخر: قدرة خرافية على الإقناع والكذب.

أساليب الخداع
- قدم نفسه كـ”محترف شامل” يعالج المرضى ويهتم بهم عبر نظام علاجي غامض.
- نشر أوصافًا مبهمة على موقعه الإلكتروني لإيهام الناس بخبرته.
- ادعى حصوله على درجات دكتوراه وهمية يمكن شراؤها بالمال.
- تلاعب بعمره مدعيًا أنه يبلغ 25 عامًا بدلًا من 18 عامًا فقط.
- روّج قصة مرض طفولته (الذئبة أو السرطان) كدافع لدراسة العلاج.
أبرز الضحايا
لم يكن “دكتور لوف” يقدم علاجًا حقيقيًا، بل كان يعتمد على كاريزمته المصطنعة. ومن أبرز ضحاياه:
- سيدة مسنة (86 عامًا) عانت من آلام المعدة.
- أقنعها بأنها مصابة بالتهاب المفاصل.
- وصف لها بعض الفيتامينات.
- استولى منها على 3500 دولار.
الأغرب أنه بعد القبض عليه لم يهرب، بل عقد مؤتمرًا صحفيًا للدفاع عن نفسه، في دلالة على ثقته بقدرته على التلاعب. قصة “دكتور لوف” تكشف حجم الجرأة التي يمكن أن يصل إليها هؤلاء المحتالون، وتؤكد على ضرورة الحذر والتحقق من أي ادعاءات طبية أو علاجية.
“قد يهمك: تحسين البصر طبيعياً“
“أكاديمية نفس مطمئنة”: تحليل ادعاءات الدكتورة أسماء سعيد
في أحد المقاطع على اليويتوب، سوف نجد شرح عن النصب والاحتيال في مجال الصحة النفسية، والكلام التالي مأخوذ من هذا المقطع. في عالمنا العربي، لا تختلف الصورة كثيرًا. أحد أبرز النماذج التي تم كشفها مؤخرًا هي “الدكتورة” أسماء سعيد، المعروفة بـ”أكاديمية نفس مطمئنة”.
عند زيارة موقعها الرسمي، تُقدم نفسها كـ:
- “استشارية الصحة النفسية من جامعة نيويورك الدولية”.
- “مصدقة من الخارجية المصرية”.
- “عضو في البورد العربي”.
- “الأولى في العالم العربي التي تقدم كورسات وجلسات في تحسين الصورة الذهنية عن الله للوصول للنفس المطمئنة”.
كما تدعي حصولها على شهادات في العلاج بخط الزمن (TLT) والبرمجة اللغوية العصبية (NLP).
تفكيك الادعاءات خطوة بخطوة
1. “استشارية الصحة النفسية من جامعة نيويورك الدولية”
- لقب “استشاري” لا تمنحه الجامعات بل يُكتسب بخبرة عملية طويلة.
- “جامعة نيويورك الدولية” ليست جامعة بالمعنى الأكاديمي، بل نشاط تجاري يبيع شهادات.
2. “مصدقة من الخارجية المصرية”
- التصديق لا يعني الاعتراف الأكاديمي أو المهني.
- الخارجية تصدّق فقط على أن الشهادة صادرة من الجهة التي تحمل اسمها، حتى لو كانت وهمية.
3. “عضو في البورد العربي”
- الجمهور يظن أنه “البورد العربي للاختصاصات الصحية”.
- الحقيقة أنه “البورد العربي للاستشارات والتدريبات والتنمية البشرية”، كيان تجاري.
- متطلبات العضوية: دفع رسوم سنوية فقط (100 دولار).
4. “تحسين الصورة الذهنية عن الله”
- مزج الدين بالتنمية البشرية بشكل قد يخلط المفاهيم.
- طرح أسئلة مثل “هل بذكر كريشنا تطمئن القلوب؟” يثير جدلًا عقائديًا خطيرًا.
“اقرأ عن: علاج التهاب الشبكية الصباغي“
العلاج بخط الزمن والبرمجة اللغوية العصبية: أساليب وهمية ومخاطر محتملة
تُشير أسماء سعيد إلى اعتمادها على أساليب مثل العلاج بخط الزمن (TLT) والبرمجة اللغوية العصبية (NLP).
حقيقتها العلمية
- هذه الأساليب تفتقر إلى الأدلة العلمية القوية.
- تعتبرها المؤسسات العلمية “علوم زائفة” أو “علاجات بديلة غير مثبتة الفعالية”.
- تعتمد غالبًا على التخيلات والإيحاءات.
أهم المخاطر
- إيهام المرضى بأن هذه الأساليب تعالج مشاكل نفسية عميقة.
- تأخير الحصول على علاج نفسي أو طبي متخصص.
- ترك المريض في دائرة من الوهم والمعاناة.
“اطلع على: تنظيف القولون“
مفرخات الدكاترة الوهميين: خطر يهدد المجتمع
إن قصة أسماء سعيد، وقبلها “دكتور لوف”، ليست حالات فردية بل جزء من ظاهرة أوسع تُعرف بـ”مفرخات الدكاترة الوهميين”:
كيف تعمل هذه المفرخات؟
- منح “شهادات دكتوراه وماجستير مهنية” مقابل رسوم مالية.
- استخدام أسماء براقة مثل “جامعة دولية” أو “أكاديمية مرموقة”.
- أساليب تسويقية مكثفة لإقناع الأفراد بشراء الألقاب.
تشمل خطورتها في التالي:
- تهدد مصداقية التعليم والمهن الحرة.
- تخلق فوضى في سوق العمل بين المؤهل الحقيقي والوهمي.
- تؤدي إلى خسائر مادية ونفسية للضحايا.
“قد يهمك: أفضل الخضار لمريض السكر“
الخاتمة: دعوة للتيقظ والتحقق من المصداقية
في الختام، إن ما كشفناه من حقائق حول “دكتور لوف” و”الدكتورة” أسماء سعيد، وغيرهما من النماذج المشابهة، ليس سوى غيض من فيض ظاهرة واسعة ومنتشرة للنصب والاحتيال في مجال الصحة النفسية.
المسؤولية تقع على عاتق الجميع
- الجمهور:
- تيقظوا واحذروا الكاريزما الزائفة والوعود الخادعة.
- تحققوا دائمًا من المؤهلات الأكاديمية والتراخيص المهنية.
- لا تنخدعوا بعبارات مثل “الشهادة مجرد صورة”، فهي أساس الكفاءة.
- المهنيون والجهات الرسمية:
- مضاعفة الجهود لتوعية الناس.
- تكثيف الرقابة وتجريم الممارسات الاحتيالية.
- تقديم المتورطين للعدالة.
إن الطريق إلى “النفس المطمئنة” يمر بالعلم الحقيقي، والأمانة، والصدق، لا بالخداع والاستغلال. فلتكن هذه القصص جرس إنذار يدفعنا نحو بناء مجتمع أكثر وعيًا وحصانة ضد الاحتيال.

الدكتور كمال خالد كاتب وخبير في الصحة العامة، يقدم محتوى طبيًا موثوقًا مبنيًا على أسس علمية حديثة. يكتب عن التغذية السليمة، الوقاية من الأمراض، الصحة النفسية، وأسلوب الحياة الصحي.
يهدف من خلال مقالاته إلى نشر الوعي الصحي بين القراء بطريقة مبسطة، بعيدًا عن المصطلحات الطبية المعقدة، مع تقديم نصائح عملية قابلة للتطبيق في الحياة اليومية.
كما يولي اهتمامًا خاصًا بقضايا الصحة المجتمعية والتحديات الصحية التي تواجه الأفراد في العالم العربي، مما يجعل محتواه مرجعًا مهمًا لكل من يبحث عن حياة صحية متوازنة قائمة على العلم والمعرفة.