في صيف عام 1973، كانت إسرائيل تعيش حالة من الثقة المفرطة بعد انتصارها في حرب 1967، وتحديداً في أجواء تل أبيب الصاخبة، حيث كانت الحياة تسير بوتيرة طبيعية، لم يدرك أحد أن خيوط مؤامرة معقدة وحرب استخباراتية صامتة تُحاك في الظل، ستُكشف أسرارها لاحقاً لتُبين عمق الاختراق الذي تعرضت له الدولة العبرية.
قائمة المحتويات
قصة انتحار النقيب دان إفرايم، الذي بدا مجرد حادث فردي لمجند غارق في الديون والمشاكل، كانت الشرارة التي كشفت عن واحدة من أخطر الشبكة التجسسية لإيميل دوربيه التي زرعتها المخابرات العامة المصرية في قلب الكيان الإسرائيلي. هذه الشبكة، التي عملت لأكثر من أربع سنوات، لم تكن مجرد مجموعة من الجواسيس، بل كانت عيون وأذان القاهرة داخل مراكز القرار العسكري والصناعي والإعلامي الإسرائيلي، ما مكن مصر من دخول حرب أكتوبر 1973 وهي على دراية تامة بنقاط القوة والضعف لدى عدوها.
دعونا نغوص في تفاصيل هذه القصة المثيرة التي جمعت بين الدراما الإنسانية والمواجهة الاستخباراتية الشرسة، وكيف ساهمت معلوماتها في تغيير ميزان القوى لصالح النصر المصري.
اللغز الأول: انتحار النقيب دان إفرايم ومفاجآت لجنة أجرانات
في يوم الأحد الموافق 15 يوليو عام 1973، وتحديداً من قاعدة تل هاشومير في تل أبيب، وهي القاعدة الرئيسية لتجميع وفرز وتدريب المجندين للجيش الإسرائيلي، كان العقيد بوخيستر، قائد المعسكر، يستعد لمغادرة مكتبه لقضاء إجازته والمشاركة في دورة الألعاب المكابية التي كانت تستضيفها تل أبيب في ذلك التوقيت. حاول الاتصال بالنقيب دان إفرايم لاستدعائه وتسليمه المهام قبل رحيله، لكن دون جدوى. بعد محاولات متكررة، أرسل بوخيستر عسكرياً للبحث عن النقيب دان. عاد العسكري ليخبره بأنه بحث عنه في كل مكان داخل المعسكر ولم يجده. في تلك اللحظة، ظهر الملازم حاييم على عجل، ليبلغهم بالكارثة: “الحق يا فندم، تعالَ شوف المصيبة اللي حصلت في مخزن السلاح والذخيرة!”.
هرع الجميع إلى المخزن، ليجدوا النقيب دان إفرايم غارقاً في دمه، وبجانب يده مسدسه الخاص. أظهر الفحص الأولي وجود فتحة دخول وخروج للرصاصة التي يبدو أنها اخترقت رأسه. تم إبلاغ القيادة على الفور، ووصل الإسعاف لنقل جثة دان إفرايم. فتح تحقيق داخلي، وبعد فحص وسؤال المقربين منه، خلصت التحقيقات الأولية إلى أن النقيب دان كان مدمناً للقمار، غارقاً في الديون، ويعاني من مشاكل زوجية حادة مع زوجته ميرا شيمن، كل هذه العوامل دفعت به إلى الانتحار والتخلص من حياته، وتم إغلاق الملف على هذا النحو.
لجنة أجرانات للتحقيق في أسباب هزيمة 1973
لكن الأحداث التي تلت ذلك، وتحديداً بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الواقعة، باندلاع حرب أكتوبر 1973 وهزيمة إسرائيل الصادمة، دفعت القيادة الإسرائيلية إلى تشكيل “لجنة أجرانات” للتحقيق في أسباب الفشل والإخفاق الرهيب الذي أدى إلى الهزيمة. أثناء مراجعة اللجنة للملفات والتحقيقات القديمة، عثرت على ملف تحقيق النقيب دان إفرايم. ما فاجأ اللجنة هو وجود بلاغ سابق قدمته زوجة دان، اتهمت فيه زوجها بسرقة الذخيرة من المخزن المسؤول عنه.
عندما تم استدعاء الزوجة، ميرا شيمن، لتوضيح سبب بلاغها الكيدي السابق، كشفت عن تفاصيل مثيرة: لاحظت تزايد علاقات زوجها النسائية وتدفق الأموال في يديه بشكل غير مبرر، بالنظر إلى أنه ضابط لا يملك مصادر دخل إضافية سوى راتبه. هذا دفعها للشك في سلوكه، واعتقدت أنه يسرق من السلاح أو الذخيرة لبيعها.
هنا كان نقطة التحول. مراجعة جرد المخزن لم تظهر أي نقص، مما يعني أن دان إفرايم بريء من تهمة السرقة. لكن السؤال الأهم ظل يطرح نفسه: من أين كان يأتي بالمال؟ هذا التساؤل دفع لجنة أجرانات إلى إعادة فتح التحقيق في قضية دان إفرايم من الصفر، لا للبحث عن سرقة الذخيرة، بل لكشف مصدر الأموال وحقيقة واقعة الانتحار المزعومة. المفاجأة كانت صادمة: دان لم ينتحر بسبب الديون أو القمار. الصدمة الأكبر كانت في تتبع عشيقته التي اختفت من إسرائيل تماماً. ثم جاءت الصدمة القاصمة: دان لم يكن سوى فرد ضمن شبكة جواسيس تعمل لصالح المخابرات العامة المصرية. هكذا انكشفت بداية قصة الشبكة التجسسية لإيميل دوربيه.
“قد يهمك: النهضة العسكرية المصرية“
ميلاد عميل: رحلة إيميل دوربيه من باريس إلى قلب تل أبيب

لفهم كيف وصلت المخابرات المصرية إلى هذا الاختراق العميق، يجب أن نعود بالزمن إلى الوراء. في 12 يونيو 1969، في مطار اللد الدولي (الذي أصبح لاحقاً مطار بن غوريون)، كانت الأجواء مشحونة بالتوتر والحذر الأمني الشديد، خاصة بعد استهداف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لطائرة إسرائيلية في زيورخ. وسط هذا المشهد الأمني، كان يقف رفعت الجمال، المعروف بـ “جاك بيتون”، رجل الأعمال صاحب شركة “سي تورز” للسياحة، يستقبل وفوداً سياحية. علاقاته المتينة بالمسؤولين كانت تفتح له أبواب صالة كبار الزوار بسهولة.
وبينما كان رفعت الجمال ينتظر، أُعلن عن وصول الرحلة رقم 232 القادمة من باريس. وسط الوفد السياحي، ظهر وجه جديد: إيميل فيليب أنطوان دوربيه. بمجرد خروجه من المطار، وفي دقائق معدودة، وصلت رسالة مشفرة من الكود 313 إلى مكتب المخابرات العامة المصرية: “الفوج السياحي وصل بسلام”. كانت هذه الرسالة تعني أن الخطوة الأولى لزرع العميل المصري إيميل دوربيه داخل تل أبيب قد تمت بنجاح.
من هو إيميل دوربيه الذي جندته المخابرات المصرية في إسرائيل
إيميل دوربيه أصول عائلته فرنسية، وقد استقروا في مصر منذ القرن الماضي وعملوا في تجارة الأخشاب والقطن والمنسوجات. بعد الحرب العالمية الثانية، قرر والده فيليب السفر إلى فرنسا لفتح آفاق تجارية جديدة في باريس. هناك تزوج من فتاة فرنسية تدعى مادلين كلير، وأنجب منها إيميل. بناءً على رغبة زوجته، استقر فيليب في فرنسا، لكنه لم ينقطع عن تجارته في مصر، وظل دائم التنقل بين البلدين.
عندما بلغ إيميل السادسة عشرة من عمره عام 1962، توفي والده فجأة في باريس. أوصى فيليب بدفنه في مصر بجانب والديه. بعد الدفن، حاولت والدة إيميل، مادلين كلير، تصفية أعمال زوجها في مصر والسفر بأموالها إلى فرنسا. لكنها تفاجأت بأن زوجها كان متزوجاً من امرأة أخرى في مصر ولديه ثلاثة أبناء، وهو ما كان مثبتاً في وثائق رسمية. دخلت مادلين في دوامة من المشاكل والإجراءات القانونية المعقدة.
إيميل، الذي لاحظ عدم رغبة والدته في البقاء بمصر، نصحها بالعودة إلى فرنسا بينما يبقى هو لإنهاء الإجراءات. سافرت والدته، لكن إيميل، الذي كان من المفترض أن يلحق بها، تعلق بمصر بشكل غير عادي، وزادت رغبته في البقاء بها. الغريب أن أبواباً مغلقة بدأت تُفتح أمامه، ومشكلاته تُحل، وتجارة جديدة تُتاح له. كل المؤشرات كانت تشير إلى وجود أيادٍ خفية تحركه وتوجهه، تحل مشاكله وتعده ليصبح رجل أعمال فرنسياً مهماً. وعلى الرغم من أن طريقة تواصله الأولية مع المخابرات المصرية لا تزال غير متاحة، إلا أنه من الواضح أن تلك الأيادي كانت المخابرات المصرية.
بعد تجنيده رسمياً، كُلف إيميل دوربيه بالسفر إلى تل أبيب كـ “عميل نائم”، أي عميل لا يقوم بأي نشاط استخباراتي مباشر في البداية، بهدف تثبيت وجوده وغطائه كرجل أعمال فرنسي يبحث عن فرص استثمارية. وهكذا، وصل إيميل إلى تل أبيب ضمن فوج سياحي تابع لشركة رفعت الجمال “سي تورز”، ليبدأ رحلته في بناء غطاءه التجاري كشركة استيراد وتصدير منتجات من وإلى جميع الدول، ويفتح حساباً في بنك “أبو عليم”، وتبدأ عجلة أعماله في الدوران.
معركة العقول: اختراق صناعة الطيران الإسرائيلية
في تلك الأثناء، وصلت معلومة بالغة الأهمية إلى جهاز المخابرات العامة المصرية: إسرائيل بدأت فعلياً في مشروع إنشاء وتصنيع الطائرة النفّاثة “السوبر ميراج”، وأن المشرف على هذا المشروع هو آل شومير، مؤسس ومدير شركة “للطيران” التي أصبحت لاحقاً “الشركة الإسرائيلية للصناعات الجوية”. إذا صحت هذه المعلومة، فإن إسرائيل ستكون قد دخلت سباق تصنيع المقاتلات، ما سيقلب موازين القوى في المنطقة. كان على المخابرات المصرية التأكد من صحة هذه المعلومة بنسبة 100%، وهذا لا يمكن أن يتم إلا بزرع عين في قلب المصنع نفسه.
وجدت المخابرات المصرية نفسها أمام خيارين: رفعت الجمال (جاك بيتون) الذي كان عميلاً ناشطاً بالفعل، أو عميلهم النائم إيميل دوربيه، الذي أصبح وجوده طبيعياً ومقبولاً داخل المجتمع الإسرائيلي. بعد اجتماع استراتيجي، تقرر تقسيم المهمة إلى جزأين. الجزء الأول أسند إلى رفعت الجمال، وطلب منه الحصول على كشف كامل بأسماء العاملين داخل مصنع “بيديك” (الصناعات الجوية). في وقت قياسي، أرسل رفعت الجمال إلى مصر ملفاً كاملاً بجميع الأسماء: مهندسين، سكرتارية، وحتى عمال نظافة.
عند تحليل هذه الأسماء ودراسة كل حالة، توقف المحللون عند اسم فتاة تدعى ماجي بن ديفيد، تبلغ من العمر 23 عاماً، وتعمل سكرتيرة في قسم الحسابات بمصنع “بيديك”. كانت ماجي من عائلة بسيطة في حي فلورنتين بتل أبيب، تعاني من ظروف مادية صعبة للغاية، لكنها كانت تتمتع بطموح كبير ورغبة في تحقيق الثراء بأي وسيلة. ما لفت انتباههم هو أنها كانت معتادة على الخروج مع رجال يكبرونها سناً بكثير (تصل أعمارهم إلى 60 و70 عاماً)، وكان الجميع يعلم أن علاقاتها هذه كانت بسبب المال. هنا جاء دور الجزء الثاني من العملية، والذي أسند رسمياً إلى إيميل دوربيه، رجل الأعمال الفرنسي الوسيم.
صيد الثعالب: تجنيد ماجي بن ديفيد والوصول إلى أسرار الطيران
في الثلاثاء، 18 نوفمبر 1969، في الساعة السادسة مساءً، وصلت رسالة مشفرة إلى إيميل دوربيه تحمل تعليمات التكليف: “غداً الساعة الثالثة عصراً، مطعم ريمان في شارع ديزينجوف، الهدف: ماجي بن ديفيد”. في اليوم التالي، دخل إيميل المطعم، واختار طاولة تمكنه من مراقبة المكان وتحديد موقع ماجي. كانت ماجي جالسة مع رجل يكبرها سناً بكثير، بدا واضحاً أن علاقتهما مبنية على المال فقط.
بمظهره الأنيق وساعته الثمينة، وبحركات الشاب الوسيم، جذب إيميل انتباه ماجي. عندما لاحظ أنها بدأت تراقبه، نادى على النادل وطلب فاتورة حسابه، ثم وزع إكرامية سخية على جميع العاملين في المطعم. هذا الموقف أثار إعجاب ماجي بن ديفيد بشدة، وأدركت أن إيميل دوربيه سيكون صيدها القادم. وبالفعل، في غضون وقت قصير، كانت ماجي بن ديفيد تجلس على طاولة إيميل دوربيه.
على مدار شهرين كاملين، استمرت اللقاءات والهدايا بينهما دون انقطاع. ماجي أصبحت متعلقة بإيميل بشكل كبير، ولا تفعل شيئاً سوى الذهاب إلى العمل صباحاً، ثم تنتظر بشوق الوقت الذي ستقابل فيه إيميل. عندما رأى إيميل أن الوقت مناسب، بدأ في استدراج ماجي. أقنعها بأن تعمل معه كوسيطة، موضحاً أن عمله يتطلب التعامل مع سماسرة يجلبون له احتياجات المصانع والشركات. وطلب منها أن تساعده في جمع هذه المعلومات من مصنع “بيديك” حيث تعمل.
بالنسبة لماجي، كان الأمر سهلاً. في غضون أيام، أحضرت له كل المعلومات التي استطاعت جمعها، وفي المقابل كانت تحصل على مبالغ مالية مبالغ فيها، دون أن تسأل عن الغرض من تلك المعلومات، فكل ما يهمها هو المال. لكن المشكلة التي واجهت المخابرات المصرية عند فحص الأوراق التي جمعتها ماجي هي أن 99% منها كانت عديمة الفائدة.
لذلك، كُلّف إيميل بأن يقترح على ماجي إدخال كاميرا صغيرة داخل المصنع وتصوير جميع الأوراق التي تعترض طريقها. لم تعترض ماجي، بل أخذت منه حقيبة يد نسائية مجهزة بكاميرا دقيقة، وبدأت تصور كل ما يطلبه إيميل دون أن تسأل عن وجهة الصور. كانت تحصل على أموال طائلة مقابل ذلك.
في غضون 60 يوماً فقط، تأكدت المخابرات العامة المصرية من أن معلومة الطائرة النفّاثة “السوبر ميراج” لا أساس لها من الصحة. كل ما كان يُصنع داخل المصنع وقتها كان طائرة نقل صغيرة اسمها “أرافا”، تعمل بالدفع التوربيني وتتسع لـ 20 راكباً. أما “السوبر ميراج” فكان مجرد مشروع على الورق فقط. لكن المعلومة الأخطر التي كشفتها الوثائق المصورة كانت خطط إسرائيل لتطوير صناعات جوية بديلة ومحاولاتها لاستيراد تكنولوجيا أوروبية بطرق ملتوية. هكذا، فإن إشاعة بسيطة قادت إلى كشف معلومات بالغة الأهمية، بعضها لم يكن يعلمه حتى كبار قادة الجيش الإسرائيلي.
“اطلع على: القوات الجوية المصرية“
توسيع الشبكة: تجنيد ديورا أمايزن والنقيب دان إفرايم
لم تتوقف الشبكة التجسسية لإيميل دوربيه عند ماجي بن ديفيد. ففي إحدى الليالي، بينما كان إيميل وماجي يمضيان وقتاً معاً، حضرت صديقة ماجي، ديورا أمايزن، برفقة عشيقها، ضابط في الجيش الإسرائيلي، النقيب دان إفرايم. قامت ديورا بتقديم إيميل إلى النقيب دان. وخلال هذا التعارف، علم إيميل أن ديورا تعمل صحفية في إحدى الصحف والمجلات الإسرائيلية، وأن دان نقيب في الجيش الإسرائيلي.
بعين الجاسوس المدرب، رأى إيميل أن هذين الشخصين يستحقان أن يوضعا تحت المجهر. بدأ يجمع معلومات شاملة عنهما. عن دان إفرايم، علم أنه كان يعمل مدرب رماية في معسكر تل هاشومير، وهو المعسكر الرئيسي لتجنيد وتدريب الجنود. كما علم أنه متزوج من يهودية من أصل بولندي تدعى ميرا شيمن، وأن حياته الزوجية مليئة بالمشاكل. لكن الأهم، كان دان مدمناً للقمار، يخسر دائماً، ويستدين الأموال لينفق جزءاً منها على القمار والجزء الآخر على عشيقته ديورا، التي لم تكن تختلف عن ماجي في حبها للمال.
كيف تم تجنيد ديورا أمايزن والنقيب دان إفرايم؟
النقطة الفارقة التي دفعت إيميل إلى طلب تجنيد دان من المخابرات المصرية هي تعرض دان المستمر للإهانة من قادته وزملائه في الجيش، مما سبب له أذى نفسياً شديداً وغضباً وسخطاً على الجيش الإسرائيلي والدولة بأسرها. أما ديورا الصحفية، فكانت تمثل مصدراً للمعلومات لا يُقدر بثمن، خاصة في ظل الرقابة الشديدة على النشر في إسرائيل. أي خبر يُمنع نشره أو يخضع لحظر، سيكون في متناول يد ديورا، وهذا كنز لأي جهاز مخابرات.
بعد أن جمع إيميل الصورة الكاملة، أرسل تقريراً مفصلاً إلى المخابرات العامة في القاهرة، يصف فيه خلفية دان (ديونه، إدمانه للقمار، مشاكله النفسية)، وتقرير آخر عن ديورا ومصدر قوتها كصحفية. وفي نهاية التقرير، كتب: “الهدفان قابلان للتجنيد، وفي انتظار الإذن”. في غضون أسابيع، وصل الإذن بالموافقة على بدء تجنيد النقيب دان إفرايم والصحفية الشابة ديورا أمايزل.
مع دان، لم يتطلب الأمر جهداً كبيراً. كان دان دائم الخسارة ودائم الحاجة إلى المال للحفاظ على علاقته بديورا. بدأ إيميل بعرض المساعدة المالية تحت ذريعة الصداقة، ثم تلتها قروض أخرى، حتى أصبح دان مديناً لإيميل بمبلغ كبير. استغل إيميل شخصية دان الضعيفة وسيطر عليه تماماً. عندما طلب إيميل من دان معلومات وتقارير، وسأله دان عن وجهة هذه المعلومات، أجابه إيميل بأنها ستُستخدم لنشرها في منظمات دولية لمنع الحروب. لكن دان، حتى وهو يشك في أن المعلومات ستذهب لأجهزة مخابرات، رد: “حتى لو، قول لهم يفتحوا عينيهم ويدفعوا اللازم”.
بنفس الأسلوب الذي استخدمه مع ماجي، جند إيميل ديورا أمايزن. اتفق معها على أن أي خبر أو معلومة مُنعت من النشر، أو خاضعة لحظر، يجب أن تحضرها له فوراً، ومقابل ذلك ستتلقى مقابلاً مادياً مجزياً. شملت هذه المعلومات تفاصيل عن جلسات الكنيست السرية المتعلقة بزيادة ميزانية الجيش بعد 1967، وقرارات الرقابة العسكرية بحظر نشر أخبار عن خسائر الجيش على جبهة الاستنزاف، وتفاصيل زيارات مسؤولين أجانب ولقاءات شيمون بيريز مع الوفود العسكرية الغربية لمناقشة توريد قطع الغيار للطائرات الفرنسية، وحتى أسماء الجنود والضباط الذين لقوا حتفهم في العمليات ولم تُنشر أسماؤهم في الصحف.
أما المعلومات التي وصلت عن طريق دان إفرايم، فقد شملت قوائم بأعداد الدفعات الجديدة التي دخلت المعسكر، وهي معلومة تبدو بسيطة لكنها تكشف معدل التعبئة وحجم التجنيد الفعلي. كما سلم دان لإيميل جداول بمواعيد الدورات التدريبية والفروق بين تدريبات الاحتياط والجنود الجدد، مما أعطى مصر فكرة دقيقة عن استعداد الجيش الإسرائيلي لأي مواجهة مستقبلية.
“قد يهمك: قاعدة جبل حمزة الصاروخية“
سقوط الستار: نهاية الشبكة ونجاح عملية الاستخلاص
عملت الشبكة بكفاءة غير مسبوقة من خريف عام 1969 حتى صيف عام 1973. تدفقت المعلومات من تل أبيب إلى القاهرة دون انقطاع: تقارير عسكرية من دان، أسرار رقابية من ديورا، وصور ومستندات من ماجي. كانت شبكة كاملة متكاملة تحت قيادة إيميل دوربيه، تعمل في قلب الدولة الإسرائيلية.
لكن الغلطة، التي غيرت مجرى الأحداث بالكامل، حدثت بسبب النقيب دان إفرايم نفسه. فإدمانه للقمار وعلاقته بديورا جعلا الأموال تتدفق في يده، مما دفعه إلى إهمال زوجته البولندية ميرا شيمن. عندما زادت غيرتها، قامت بكتابة خطاب لقاعدة تل هاشومير العسكرية، اتهمت فيه زوجها باستغلال موقعه كقائد لمخزن السلاح والذخيرة وسرقة الذخيرة وبيعها لتغطية نفقاته على القمار وعشيقته.
فتحت القيادة في المعسكر تحقيقاً مع دان. وعلى الرغم من أن التحقيق انتهى إلى عدم وجود أي سرقات في المخزن واعتبار البلاغ كيدياً من الزوجة، وإغلاق الملف، إلا أن هذا الأمر لم ينتهِ بالنسبة لدان. فإحساسه بأن مجرد بدء التحقيق معه هو بداية النهاية بالنسبة له، جعله يعيش حالة من القلق والخوف والرعب. كان يخشى أن تكتشف المخابرات العسكرية أي شيء عن أنشطته، مما قد يؤدي إلى حكم الإعدام، خاصة وأنهم في حالة حرب.
“قد يهمك: العلاقات المصرية السعودية“
لماذا انتحر النقيب دان إفرايم؟
المفارقة حدثت عندما كان العقيد بوخيستر يستعد لإجازته للمشاركة في الألعاب المكابية، وكان دان إفرايم هو من سيحل محله كنائب قائد المعسكر. لكن دان أيضاً أصر على الحصول على إجازة. ولأن بوخيستر لم يكن يريد إلغاء إجازته، طلب من القيادة إصدار أمر بمنع دان من النزول في إجازة، وإبقائه في المعسكر حتى عودة بوخيستر. صدر القرار الإداري، الذي كان في الظاهر مجرد إجراء روتيني، لكن دان فهمه على نحو مختلف تماماً. اعتبره إشارة إلى أن المخابرات العسكرية قد بدأت تشتم رائحة ما يفعله. هذه الحالة من القلق والخوف والرعب التي عاشها دان هي التي دفعته إلى التخلص من حياته، ليس بسبب الديون أو القمار، بل بسبب الخوف من انكشاف أمره.
في نفس اليوم الذي أُغلق فيه التحقيق الداخلي على أن وفاته كانت انتحاراً، صدرت تعليمات من المخابرات المصرية باستدعاء الثلاثة: إيميل دوربيه، ماجي بن ديفيد، وديورا أمايزن، ومطالبتهم بمغادرة تل أبيب. تم إدراج أسمائهم ضمن قائمة وفد سياحي متجه إلى روما، تبعاً لشركة “سي تورز”. بعد أسبوع، عادت الرحلة السياحية إلى تل أبيب، لكن الثلاثة لم يكونوا على متنها. بمجرد أن وطأت أقدامهم روما، اختفوا تماماً ولم يظهروا مرة أخرى.
في ذلك اليوم، أُغلق ملف الشبكة التجسسية لإيميل دوربيه. شبكة عملت داخل تل أبيب لمدة أربع سنوات كاملة، تمكنت خلالها من إمداد المخابرات المصرية بمعلومات مصيرية عن مصانع الطيران (Aviation)، وتدريبات الجيش الإسرائيلي، ومراكز التجنيد، وما يدور في الغرف المغلقة تحت ستار الرقابة العسكرية.

الخاتمة: إنجاز صامت غيّر مسار التاريخ
بفضل المعلومات التي حصلت عليها المخابرات المصرية من الشبكة التجسسية لإيميل دوربيه وغيرها من الأيادي الخفية التي عملت بصمت وإخلاص، دخلت مصر حرب أكتوبر 1973 ليس بخطوة واحدة، بل بخطوات متقدمة على عدوها. كان الجيش الإسرائيلي بالنسبة للمخابرات المصرية بمثابة “الكتاب المفتوح”، وهو ما ساهم بشكل كبير في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية والانتصارات الأولية في الحرب.
وعلى الرغم من جميع التحقيقات التي أجرتها لجنة أجرانات، ومحاولات الموساد الإسرائيلي المستميتة للوصول إلى باقي أعضاء الشبكة، إلا أنهم حتى اليوم لم يتمكنوا من كشف أي معلومات عن أماكن تواجدهم الحقيقية. وهذا يؤكد مدى الاحترافية والدقة في عمل جهاز المخابرات العامة المصرية، الذي لم يكتفِ بالتجنيد والتغلغل، بل أتقن فن الاستخلاص وحماية عملائه.

الاسم/ علي أحمد، كاتب متخصص في المقالات الإخبارية والترندات الحالية التي تشغل اهتمام الكثير من الأشخاص في الدول العربية، كما نقوم بنشر مقالات عامة متنوعة تُزيد من ثقافة القارئ العربي. لدينا خبرة طويلة في مجال المقالات الإخبارية والترندات والمقالات العامة المتنوعة، ونعتمد على المصادر الموثوق فيها لكتابة محتوى هذه المقالات. هدفنا هو إيصال المعلومات الصحيحة للقارئ بشكل واضح ومباشر.
يتميز علي أحمد بكتاباته التي تغطي مجموعة واسعة من المقالات العامة والأخبار العاجلة والموضوعات الرائجة. يجمع في طرحه بين السرعة في مواكبة الأحداث والدقة في نقل المعلومات، ليقدم للقارئ صورة واضحة وشاملة.
يركز على تحليل الأحداث بموضوعية وحياد، مع تقديم خلفيات مختصرة تساعد القارئ على فهم الخبر في سياقه. كما يعرض مقالات متنوعة حول الترندات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية، مما يجعل محتواه مناسبًا لجمهور واسع. كتاباته تعكس حرصًا على أن يكون الموقع دائمًا في قلب الحدث، مع محتوى جذاب يواكب اهتمامات القراء ويثير النقاش حول أبرز القضايا المعاصرة.