قضية جيفري أبستين: لغز لم يكتمل فك شيفرته

من هو جيفري أبستين؟ وكيف تحول نحو عالم المال والأعمال؟ وماذا عن إمبراطورية أبستين المالية المشبوهة؟ تفاصيل جزيرة أبستين والوفاة الغامضة وتداعياتها

قضية جيفري أبستين

في ظهيرة يوم 10 أغسطس 2019، وفي سجن متروبوليتان فيدرالي بمدينة مانهاتن الأمريكية، عثر أحد حراس السجن على النزيل جيفري أبستين ملقى بجانب سريره في وضعية غريبة. ليتأكد بعد ثوانٍ من وصول طبيب السجن أن السجين قد فارق الحياة. لم يكن أبستين سجينًا عاديًا، بل كان محور واحدة من أبشع وأشهر قضايا استغلال الأطفال والاتجار بالبشر في القرن الحادي والعشرين، والتي هزت الرأي العام الأمريكي والعالمي على حد سواء. وفاته، التي قيل إنها انتحار، سرعان ما أحاطت بها هالة من الغموض والتساؤلات، لا سيما وأن كل من تورط اسمه أو حاول الحديث عن القضية، وجد مصيره في ظروف غامضة مماثلة.

فما هي حقيقة جيفري أبستين؟ وكيف صعد نجمه من مدرس متواضع إلى ملياردير متورط في شبكة إجرامية معقدة؟ وهل فعلاً انتحر أم أُخرس إلى الأبد؟


من هو جيفري أبستين؟ من الفقر إلى الثراء المفاجئ

ولد جيفري إدوارد سيمور أبستين في 20 يناير 1953، بحي بروكلين بنيويورك، لأسرة يهودية تعيش حياة فقيرة. والده كان يعمل عاملًا بسيطًا في الحدائق العامة، ووالدته مساعدة مدرسة. منذ صغره، برز أبستين بموهبته في العزف على البيانو ونبوغه غير العادي في مادة الرياضيات، وهو ما استغله ليعطي دروسًا خصوصية لزملائه مقابل مادي. كان ذكاؤه حادًا لدرجة أنه تخطى سنتين كاملتين في المرحلة الثانوية، وتخرج بعمر 16 عامًا فقط في عام 1969.

التحق أبستين بجامعة “كوب بر يونيون” لدراسة الرياضيات المتقدمة، لكنه تركها بعد فترة قصيرة لينتقل إلى معهد كورنت للعلوم الرياضية. والغريب أنه ترك المعهد أيضًا في عام 1974، قبل عام واحد من تخرجه، دون الحصول على أي شهادة جامعية. هذا القرار المفاجئ لطالب بهذا الذكاء أثار العديد من التساؤلات حول مساره الأكاديمي المبهم.


التحول نحو عالم المال والأعمال: بدايات غامضة

بعد تركه الدراسة، التقى أبستين بدونالد بار، مدير مدرسة دالتون المرموقة بمانهاتن. ورغم عدم امتلاكه لأي شهادة جامعية، عينه بار مدرسًا لمادتي الرياضيات والفيزياء. حقق أبستين نجاحًا غير عادي في التدريس، وأصبح الطلاب يطلبون منه دروسًا خاصة بعد الدوام. لكن هذه المسيرة لم تدم طويلًا، حيث طرد أبستين من المدرسة بسبب “ضعف الأداء” عقب شكاوى متكررة من الطالبات حول سلوكه غير المنضبط ومحاولاته التسلل لغرف تغيير ملابسهن.

لم يلبث أبستين أن يلتقطه ألان جرينبيرج، الرئيس التنفيذي لشركة “بيير ستيرنز” لتداول الأوراق المالية، والذي كان معجبًا بذكائه. بعد تدريب مكثف على أعمال البورصة، عُين أبستين مساعد متداول في الشركة في نهاية عام 1976. خلال أربع سنوات فقط، تحول من مجرد موظف إلى شريك محدود في الشركة، بفضل قدرته على توطيد علاقاته بأهم وأغنى عملاء البنوك. هذا النجاح الصاروخي أثار الشكوك، واتهمه زملاؤه بالتلاعب ببيانات البورصة. لمواجهة التحقيقات، استقال أبستين في منتصف عام 1981 وقرر فتح شركته الخاصة.

“قد يهمك: توطين صناعة أبراج الكهرباء في مصر


إمبراطورية أبستين المالية المشبوهة: غسيل الأموال وإدارة الثروات

قضية جيفري أبستين
The Jeffrey Epstein Case

كان نشاط شركة أبستين الأولى غريبًا وغير مألوف، حيث تخصصت في “استعادة الأموال المسروقة أو المختلسة”. وبرع أبستين في ما يعرف بـ”الأموال المظلمة” أو غسيل الأموال، ليصبح لديه القدرة على إخفاء أي أموال مهما كان مصدرها أو هوية صاحبها، مما يجعل تتبعها شبه مستحيل. كان من أبرز عملائه في تلك الفترة رجل الأعمال عدنان خاشقجي.

لاحقًا، تورط أبستين مع ستيفن هوفنبرج في إحدى أكبر الفضائح المالية في تاريخ أمريكا، والمعروفة باسم “مخطط بونزي”. حيث جمعا 600 مليون دولار من المستثمرين تحت وهم الاستثمار، لكنهما كانا يسددون أرباح المستثمرين القدامى بأموال المستثمرين الجدد. الغريب أن أبستين انسحب من هذه الشراكة في أوج مجدها، ليفتح شركته الجديدة “جي أبستين كومباني”، التي تخصصت في “إدارة ثروات المليارديرات”.

كان أول عملاء شركته الجديدة هو رجل الأعمال اليهودي ليزلي ويزنر، صاحب علامات تجارية عالمية مثل “فيكتوريا سيكريت”. وصلت ثقة ويزنر في أبستين إلى درجة أنه منحه توكيلًا رسميًا كاملًا بإدارة جميع أمواله التي بلغت 6 مليارات دولار. هذا الانتقال المذهل من مدرس إعدادي إلى مسؤول عن مليارات الدولارات لم يكن وليد الثقة العادية، بل كان نتيجة استغلال أبستين لنقاط ضعف ويزنر المنحرفة، حيث كان “قوادًا” له، يقدم له الفتيات اللواتي كن يتقدمن للعمل كعارضات أزياء في “فيكتوريا سيكريت”. القصر الذي كانت تتم فيه هذه الأعمال القذرة، باعه ويزنر لأبستين لاحقًا مقابل دولار واحد فقط، في صفقة غامضة تعكس طبيعة العلاقة بينهما.

“اطلع على: تعميق العلاقات العسكرية المصرية الباكستانية


شبكة العلاقات والسقوط الأول: حصانة غريبة

شكلت وفاة روبرت ماكسويل الغامضة في عام 1991 نقطة تحول أخرى في حياة أبستين، فقد توطدت علاقته بابنة ماكسويل، جلين ماكسويل، التي أصبحت رفيقته، عشيقته، وعقله المدبر. كانت جلين هي جواز سفر أبستين لدخول عالم “صفوة المجتمع”، حيث نصحته بالانخراط في حملات التبرعات السخية للجامعات ومراكز البحث العلمي، خاصة تلك التي تركز على علوم الأعصاب، الذكاء الاصطناعي، ونظرية التطور، بل وتبنى مشروعًا أخطر يتعلق باستنساخ الجينات البشرية.

عبر جلين، وصل أبستين إلى كبار السياسيين، ومنهم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، الذي كان أبستين أحد أكبر المتبرعين لحملاته الانتخابية. كما كانت جلين سببًا في تعرف أبستين على دونالد ترامب، واستمرت صداقتهما من عام 1992 حتى 2004، حضر ترامب خلالها العديد من حفلات أبستين المشبوهة.

في عام 2005، تلقت شرطة بالم بيتش بلاغًا من أم مرعوبة تفيد بتعرض ابنة زوجها، البالغة من العمر 14 عامًا، لاعتداء كامل داخل قصر أبستين. الضابط مايكل رايتر تابع القضية، واكتشف أن القصر يشهد دخول وخروج فتيات قاصرات بشكل مستمر. بتحرياته، وصل إلى شهادة 33 فتاة، تتراوح أعمارهن بين 14 و15 عامًا، كلهن قاصرات، وقد روين نفس السيناريو لاعتداءات كاملة.

عندما اقتحمت الشرطة القصر، وجدوا صورًا لبنات عاريات في أوضاع مخلة، وأدلة تثبت الجرائم. ورغم كل هذه الأدلة، خرج أبستين من المحكمة بعد دفع كفالة 3000 دولار فقط! توجه أبستين بعدها إلى إسرائيل، ثم عاد إلى الولايات المتحدة ليتم عقد “صفقة” هي الأغرب في القانون الأمريكي، حيث اعترف بتجنيد فتاة قاصر مقابل مادي، وحُكم عليه بالسجن 18 شهرًا فقط، مع السماح له بالخروج 12 ساعة يوميًا وزيارة مواقع عسكرية حساسة. ليس هذا فحسب، بل تضمنت الصفقة بندًا سريًا يمنحه حصانة قضائية مستقبلية له ولكل من قد يظهر اسمه في القضية. الغريب أن كل الأدلة في القضية اختفت بعد ذلك.


جزيرة أبستين الملعونة: بؤرة الفساد و”معبد الشيطان”

خلال فترة صعوده، وتحديدًا بعد أن بدأت الشكوك تحوم حوله، نصحته جلين ماكسويل بشراء جزيرة خاصة. اشترى أبستين جزيرة في وسط البحر وأطلق عليها اسم “سان ليتل جيمز”، والتي سرعان ما أصبحت تعرف باسم “جزيرة أبستين الملعونة”. كانت الجزيرة عبارة عن بؤرة لكل الموبقات التي لا يمكن تخيلها. بني عليها قصر ضخم وعشرات الأجنحة وغرف الضيافة، وكانت مراقبة بالكاميرات السرية على مدار 24 ساعة في غرف النوم والمساج والحمامات.

لكن الأغرب كان وجود مبنى مربع ذي قبة ذهبية وخطوط زرقاء، وصفه الموظفون بأنه مكان لممارسة طقوس وحاجات غريبة، وكان المكان الوحيد الذي يحظر على أي شخص مراقبته أو الاطلاع على كاميراته سوى أبستين وجلين ماكسويل.

“تعرف على: لعبة التوازن في الخليج


التحقيقات الجديدة والقبض النهائي: زلزال يهز أمريكا

ظلت قضية أبستين طي الكتمان لسنوات، حتى عام 2017، عندما بدأت الصحفية جولي براون من جريدة “ميامي هيرالد” في إجراء تحقيقات حول فساد العدالة الفيدرالية. عثرت براون على ملف أبستين المختوم بختم “اتفاق عدم الملاحقة”، وبدأت من الصفر. وصلت إلى ضابط الشرطة مايكل رايتر، ومن ثم جمعت شهادات 80 فتاة، تتراوح أعمارهن بين 14 و18 عامًا، كلهن قاصرات، وقد تعرضن لاعتداءات مماثلة.

في نوفمبر 2018، نشرت جولي براون سلسلة تحقيقاتها بعنوان “انحراف العدالة”، والتي كانت بمثابة زلزال ضرب أمريكا بأكملها. أثارت التحقيقات غضبًا شعبيًا واسعًا، لا سيما بعد الكشف عن الصفقة السرية غير الدستورية التي تمت بين أبستين والمدعي الفيدرالي ألكسندر أكوستا، والتي لم تحظ بموافقة أي من الضحايا.

بعد ثلاثة أيام فقط من نشر التحقيقات، طالب الكونغرس الأمريكي بفتح تحقيق في الصفقة. أبستين، الذي كان في باريس، عاد إلى أمريكا مطمئنًا بعد أن تلقى “تطمينات” بأن الأمر سيسوى كالسابق. لكن هذه المرة، تم القبض عليه فور وصوله المطار. وبتفتيش منزله، عثرت الشرطة على كميات هائلة من الأدلة، بما في ذلك أسطوانات، أجهزة كمبيوتر، كاميرات، صور، ودفاتر تحتوي على سجلات بأسماء شخصيات بارزة، منهم دونالد ترامب والأمير أندرو ولي العهد البريطاني. هذا الأخير حبس نفسه في بيته قرابة العام بسبب القضية، واضطر لدفع 13 مليون دولار للفتاة التي ذكرت اسمه في التحقيقات.


الوفاة الغامضة وتداعياتها: لغز أكبر يلوح في الأفق

أودع جيفري أبستين سجن متروبوليتان، وكان من المفترض أن يكون تحت حراسة مشددة. ولكن بعد 17 يومًا فقط، في 10 أغسطس 2019، أعلنت إدارة السجن أن أبستين “انتحر” داخل زنزانته. لكن كل الدلائل تشير إلى أنه تم التخلص منه عمدًا. تقرير الطبيب النفسي كان ينص على عدم تركه بمفرده، لكن زميله في الزنزانة سُحب قبل وفاته بيوم واحد. لم تتم مراقبته كل نصف ساعة كما هو مفترض، بل لم يقترب أحد من زنزانته من الساعة العاشرة مساءً حتى السادسة صباحًا. كما افتعلت مشكلة داخل السجن لسحب الحراس من الطابق الذي توجد به زنزانته.

حاولت وزارة العدل تهدئة الرأي العام بنشر شريط فيديو مدته 11 ساعة يظهر مراقبة الكاميرات للدور الذي به الزنزانة، لكن اكتشف المتخصصون أن ثلاث دقائق من الفيديو قد تم قصها باحترافية. وعندما سُئلت الوزارة عن ذلك، زعمت أن مشكلة حدثت في الكاميرات في ذلك التوقيت بالذات. الأخ أبستين لم يقتنع، واستعان بأحد كبار الأطباء الشرعيين الذي أكد أن ما حدث لأخيه لم يكن انتحارًا بل “قتلًا عمدًا”، لكن هذا التقرير قوبل بالتجاهل.

المفاجأة الأكبر كانت عندما حكمت المحكمة بتعويضات للضحايا، ليكتشفوا أن أبستين كان قد أوصى بكل أمواله وممتلكاته لجمعيات خيرية يهودية مقرها في تل أبيب. أما جلين ماكسويل، العقل المدبر، فقد اختفت ثم تم القبض عليها بعد عام وحكم عليها بالسجن 20 عامًا.


استمرار التداعيات: أداة ابتزاز واضحة

بالرغم من وفاة أبستين وسجن جلين ماكسويل، فإن القضية لم تمت. بل أصبحت أداة ابتزاز واضحة، دليل على ذلك:

  1. وعد دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية بنشر “القائمة السوداء” للمتورطين، ثم تراجع عن ذلك لاحقًا.
  2. تعرض إيهود باراك للتهديد من نتنياهو بنشر صوره مع أبستين في الجزيرة، وهو ما حدث بالفعل، مما أثر على حظوظ باراك الانتخابية.
  3. المدعية الفيدرالية الأمريكية أعلنت عن وجود “القائمة السوداء” لقضية أبستين على مكتبها، ثم تراجعت عن تصريحها بعد 24 ساعة فقط.

إن قضية جيفري أبستين تظل لغزًا معقدًا، يطرح أسئلة حول مدى اختراق الفساد لأعلى المستويات، وكيف يمكن لثلة من الأفراد أن يفلتوا من العقاب لفترات طويلة بفضل نفوذهم وعلاقاتهم. الأحداث الغامضة المتصلة بهذه القضية، ووفاة أبستين في ظروف ملتبسة، تعزز من فكرة أن هناك أيادي خفية تعمل على إبقاء بعض الحقائق مدفونة.

والسؤال الأهم يبقى: ما مدى تأثير هذه القضية على الساحة السياسية العالمية اليوم، وهل هي أداة ضغط تستخدم خلف الكواليس لتحديد مصائر الشخصيات الكبرى؟ هذه القضية، بكل تفاصيلها المروعة، تظل شاهدًا على أن العدالة قد تكون في بعض الأحيان أعمى من أن ترى الحقيقة كاملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top