في غياهب التاريخ المصري القديم، حيث سادت الحضارة الفرعونية لأكثر من ثلاثة آلاف عام، تبرز قصة ملك حمل على عاتقه ثقل نهاية حقبة ذهبية، لُقب بـ “الفرعون الأخير”. إنه نختنبو الثاني، الذي لم يكن مجرد خاتمة لسلالة حكمت وخلدت اسمها في صفحات الزمن، بل كان تجسيداً لمرحلة انتقالية شهدت فيها مصر أوج ازدهارها ثم بداية انحدارها نحو الاعتماد على الغير ونسيان الأصالة. هذه القصة، التي حُفظت في برديات يونانية وديموطيقية وحتى في كتابات البيروني، تحمل في طياتها دلالات عميقة حول مصير الحضارات عندما يغيب الوعي بأهمية الأصالة والاعتماد على الذات.
قائمة المحتويات
الحلم الغامض: نبوءة بنهاية عصر؟
تتكشف الأحداث في عام 342 أو 343 قبل الميلاد، تحديداً في منتصف ليل أحد الأيام القمرية بمدينة منف المصرية. كان الملك، نختنبو الثاني، غارقاً في نوم عميق حين انتابه حلمٌ غريب ومدهش.
- تفاصيل الحلم:
رأى نفسه جالساً على ضفة نهر النيل، يرقب مركباً عظيماً يقترب، يحمل عرشاً مهيباً تجلس عليه إيزيس، ربة السماء، تحيط بها مجموعة من الآلهة “الآلهة الباطلة التي كان يعبدها بعض قدماء المصريين”. وبينما يقترب المركب، يخرج الإله أنحور أو عين حور، إله الحرب والجيش والدفاع (بالطبع لا يوجد هذا الإله ولكنه اعتقاد قديم)، ويسجد أمام إيزيس.
يبدأ أنحور في شكواه، ورغم إقراره بأن الملك يبذل قصارى جهده، إلا أن معبده في سمنود لم يكتمل بناؤه، وأن الكاهن “ساموس” قد أهمل قدسيته وطرد منه، تاركاً كل شيء نصف مكتمل. تستمع إيزيس للشكوى، وتكتفي بالنظر إلى الملك الذي كان يشاهد المشهد بأكمله.
رد فعل الملك
- استيقظ الملك مذعوراً، ومع بزوغ الشمس، استدعى وزراءه وكبار رجال الدولة.
- استدعى الكاهن ساموس ومجموعة كهنة معبد أنحور في سمنود.
- سأل عن آخر أعمال الترميم، واكتشف أن قدس الأقداس والنقوش لم تكتمل بعد.
غضب الملك غضباً شديداً، واستدعى النحاتين والنقاشين، وسألهم عن أمهرهم. فتقدم نحات يدعى “بيتيس”، مؤكداً أنه قادر على إنجاز النقوش في أيام قليلة. لكن بدلاً من الشروع في العمل، أخذ إجازة، وانشغل بفتاة جميلة وشرب الخمور وأهمل عمله.
دلالة الحلم:
هنا، تتوقف جميع المصادر التاريخية عند جملة: “بيتيس أهمل عمله”. هذا التوقف لم يكن عبثياً، بل كان رمزاً لسقوط الحضارة. القصة ترمز إلى أن المصريين، من الملك إلى الكهنة وحتى النحاتين، انشغلوا بملذاتهم وأهملوا مسؤولياتهم، مما أدى إلى ضعف الدولة وعدم قدرتها على مقاومة الغزاة.
نختنبو الثاني: الصعود إلى العرش

لفهم سياق الحلم، يجب العودة إلى ظروف وصول نختنبو الثاني إلى الحكم.
انتقال السلطة بعد نختنبو الأول
- في عام 360 ق.م، كان الحكم لنختنبو الأول، ويُعتقد أنه جد نختنبو الثاني.
- بعد وفاته، تولى ابنه “تيوس” الحكم، لكنه لم يكن محبوباً بسبب الضرائب الباهظة.
- أثناء حملته ضد الفرس، قام شقيقه (والد نختنبو الثاني) بانقلاب ناعم.
دور نختنبو الثاني:
جمع والده القوات، وطلب من ابنه الشاب، القائد العسكري المحبوب، أن يتولى الحكم. تواصل نختنبو مع القادة اليونانيين المرتزقة، وعلى رأسهم “سيلاوس الثاني”، فانسحبوا من جيش تيوس. عندما علم تيوس بالأمر، حاول استمالة القادة لكنهم رفضوا، فهرب إلى الفرس، حيث عاش منفياً حتى مات.
تثبيت الحكم
- الجيش نادى باسم نختنبو الثاني.
- الكهنة دعموا حكمه، خاصة كهنة العجل أبيس.
- تمكن من قمع تمردات الدلتا وتوطيد سلطته.
عصر الرخاء قبل السقوط

رغم أنه الفرعون الأخير، إلا أن فترة حكم نختنبو الثاني، التي استمرت 17 عاماً تقريباً، شهدت رخاءً وازدهاراً.
إنجازاته هي التالي:
- بنى العديد من المعابد في أنحاء مصر.
- جدد وأعاد ترميم ما كان قائماً، حيث وصل عددها إلى حوالي 40 معبداً.
- ساهمت هذه المعابد في دعم الاقتصاد والمجتمع والدين معاً.
العملة الذهبية “نوب نفر”
إحدى أبرز إنجازاته الاقتصادية كانت صك عملة مصرية جديدة تسمى “نوب نفر” أي “الذهب النقي”.
- استُخدمت لدفع أجور المرتزقة اليونانيين.
- مثّلت “صحوة الموت” للحضارة المصرية التي لم تعتمد على العملات سابقاً.
لكن يُؤخذ عليه اعتماده الكبير على المرتزقة الأجانب بدلاً من بناء جيش مصري مستقل.
الانحدار والغزو الفارسي: الارتخاء يحل محل الرخاء
مرت السنوات، وتحول الرخاء إلى ارتخاء. انشغل المصريون بالملذات وأهملوا شؤون الحكم.
مظاهر الانحدار:
- انتشار شرب الخمور والترف.
- إهمال الجيش المصري والمرتزقة معاً.
- ضعف الكهنة والملك أمام المسؤوليات.
الغزو الفارسي
- في عام 343 ق.م، تحرك الجيش الفارسي نحو مصر.
- جمع نختنبو المرتزقة للدفاع، لكن الجيش الفارسي كان أقوى.
- انهزم الجيش المصري، وسقطت مدن الدلتا واحدة تلو الأخرى.
- سيطر الفرس على المراكب في النيل، مما سرّع سقوط مصر.
انسحب نختنبو الثاني جنوباً نحو النوبة، وهناك اختفى أثره، ليصبح الفرعون الأخير لمصر القديمة.
مصير الفرعون الأخير والتاج المفقود
أعد نختنبو الثاني لنفسه تابوتاً فاخراً، لكنه لم يُدفن فيه. هرب جنوباً وترك مصر.
الأسطورة عن نسب الإسكندر
تقول أسطورة إن نختنبو الثاني ظهر في مقدونيا، في بلاط الملك فيليب، وتقمص دور الإله آمون “أحد الأشياء التي يعبدها بعض قدماء المصريين”، فأنجب من أولمبياس الإسكندر الأكبر. هذه الأسطورة بررت قبول المصريين للإسكندر كحاكم لهم.
التاج المفقود
- أخذ نختنبو معه التاج الملكي وأدوات الحكم.
- هذا التاج لم يكن ذهبياً، بل رمزاً متوارثاً.
- لا يزال البحث عنه مستمراً كقطعة أثرية ذات قيمة رمزية عظيمة.
“قد يهمك: مستقبل الجغرافيا السياسية العالمية“
نهاية الحضارة الفرعونية: حقيقة أم أسطورة؟
هناك مفاهيم خاطئة حول نهاية الحضارة المصرية القديمة. البعض يعتقد أنها انتهت فجأة بسبب “شعوب البحر”، لكن هذا غير صحيح.
التوضيح التاريخي
- هجرات شعوب البحر حدثت حوالي 1200 ق.م، وتصدت لها مصر.
- الحضارة استمرت بعدها أكثر من 800 عام.
- الأفول الحقيقي بدأ مع دخول الفرس الأول إلى مصر وقتلهم للعجل أبيس.
فقد المصريون القوة الروحية التي كانت تدفعهم لبناء حضارتهم، ومع اعتماد نختنبو الثاني على الأجانب، أصبحت السلطة أجوف بلا روح مصرية أصيلة.
استمرار بعض المظاهر
- عبادة العجل أبيس استمرت لمئات السنين.
- بعض المعابد بقيت حتى 350 م.
- الأدب واللغة المصرية القديمة ظلت حية حتى الفتح الإسلامي.
“قد يهمك: محمد أنور السادات رئيس محمد الأسبق”
“قد يهمك: العلاقات المصرية السعودية“
دروس من الماضي: الهوية والانهيار
في الختام، فإن قصة الفرعون الأخير نختنبو الثاني ليست مجرد حكاية، بل درس عميق حول مصير الأمم.
- السبب الحقيقي لانهيار الحضارة هو نسيان الهوية.
- استيراد الجنود المرتزقة والثقافة والاقتصاد من الخارج قاد إلى الضعف.
- عندما يصبح مصدر القوة من الخارج بدلاً من الداخل، تنهار الحضارة.
هذه هي قصة الفرعون الأخير، ونهاية عصر مجيد، ودرس خالد لكل زمان ومكان.

الاسم/ علي أحمد، كاتب متخصص في المقالات الإخبارية والترندات الحالية التي تشغل اهتمام الكثير من الأشخاص في الدول العربية، كما نقوم بنشر مقالات عامة متنوعة تُزيد من ثقافة القارئ العربي. لدينا خبرة طويلة في مجال المقالات الإخبارية والترندات والمقالات العامة المتنوعة، ونعتمد على المصادر الموثوق فيها لكتابة محتوى هذه المقالات. هدفنا هو إيصال المعلومات الصحيحة للقارئ بشكل واضح ومباشر.
يتميز علي أحمد بكتاباته التي تغطي مجموعة واسعة من المقالات العامة والأخبار العاجلة والموضوعات الرائجة. يجمع في طرحه بين السرعة في مواكبة الأحداث والدقة في نقل المعلومات، ليقدم للقارئ صورة واضحة وشاملة.
يركز على تحليل الأحداث بموضوعية وحياد، مع تقديم خلفيات مختصرة تساعد القارئ على فهم الخبر في سياقه. كما يعرض مقالات متنوعة حول الترندات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية، مما يجعل محتواه مناسبًا لجمهور واسع. كتاباته تعكس حرصًا على أن يكون الموقع دائمًا في قلب الحدث، مع محتوى جذاب يواكب اهتمامات القراء ويثير النقاش حول أبرز القضايا المعاصرة.