فهم سورة التحريم: توجيه رباني وعصمة نبوية
Understanding Surah At-Tahrim
تعرف على تفسير (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)، وتفسير “قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم”، وتفسير قوله تعالى “إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما”

تُعد سورة التحريم من السور القرآنية العظيمة التي تحمل في طياتها دروسًا بليغة وتوجيهات ربانية هامة، ليس فقط للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل للأمة جمعاء. آياتها الأولى، التي تتناول حوارًا إلهيًا مباشرًا مع النبي الكريم حول بعض شؤون بيته، أثارت على مر العصور نقاشات علمية عميقة حول معانيها ودلالاتها، خاصة فيما يتعلق بعصمة الأنبياء، وطبيعة الخطاب الإلهي، ومكانة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. في هذا المقال، سنستعرض تفسير سورة التحريم، مع التركيز على الأسس العقدية والمنهجية التي يعتمدها المسلمون في فهم هذه الآيات المباركة.
قائمة المحتويات
أسباب النزول: الحكمة الإلهية في أحداث الواقع النبوي
يبدأ الله تعالى سورة التحريم بخطاب مؤثر ومباشر لنبيه الكريم: “يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم. قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم.” (التحريم: 1-2).
يُجمع المسلمون (أهل السنة والجماعة) على أن هذه الآيات نزلت في سياق حادثة وقعت في بيت النبوة، وهي ما يُعرف بـ”حادثة العسل” أو “حادثة مارية القبطية”. وقد وردت الروايات في كتب الصحاح والسنة النبوية لتوضيح ذلك:
- حادثة العسل:
تذكر الرواية المشهورة، والتي رواها البخاري ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلاً عند زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها، وكان يمكث عندها بعض الوقت. فغارت منه زوجتاه عائشة وحفصة رضي الله عنهما، واتفقتا على أن تقول كل منهما إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم: “إني أجد منك ريح مغافير” (والمغافير صمغ حلو له رائحة غير مستساغة). فلما شم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: “لا بأس، لقد شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه.” فنزل الوحي يعاتبه على تحريم ما أحل الله له ابتغاء لمرضاة أزواجه. - حادثة مارية القبطية:
وردت روايات أخرى، وإن لم تكن بنفس قوة رواية العسل، تشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم خلا بمارية القبطية في يوم عائشة أو حفصة، فغضبت الزوجة المعنية وحلفت بأنها ستخبر أحداً، فحرم النبي مارية على نفسه إرضاء لها، فجاء العتاب القرآني.
يرى أهل السنة أن هاتين الروايتين لا تتعارضان بالضرورة، وقد يكون كلاهما وقع، أو أن القرآن الكريم نزل ليشمل حكماً عاماً يتعلق بتحريم الحلال، والحادثة كانت سببًا خاصًا لنزوله. الأهم هو أن سبب النزول يبين لنا سياق الخطاب الإلهي ودرسه البليغ.
“لم تحرم ما أحل الله لك”: العتاب النبوي ومفهوم ترك الأولى

محور النقاش الأهم في تفسير سورة التحريم هو فهم طبيعة العتاب الإلهي الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم. يؤمن المسلمون بعصمة الأنبياء والرسل من الوقوع في الكبائر والصغائر التي تخل بالدين، وعصمتهم في التبليغ عن الله تعالى. فما يصدر منهم من أقوال وأفعال تتعلق بالتشريع والدعوة هو معصوم من الخطأ.
أما العتاب الوارد في هذه الآية، فليس دليلاً على وقوع النبي صلى الله عليه وسلم في ذنب أو معصية بالمعنى الاصطلاحي الذي يستوجب العقاب. بل هو من باب “ترك الأولى”، أو ما يُعرف بـ”عتاب المحب لمحبوبه”. ومعنى “ترك الأولى” أن النبي صلى الله عليه وسلم، بمكانته العظيمة وكماله البشري والرسالي، كان الأجدر به والأولى في حقه أن لا يحرم على نفسه أمراً أحله الله له لمجرد مرضاة البشر، حتى لو كانوا أزواجه. هذا الفعل ليس معصية، بل هو خلاف ما هو أكمل وأفضل من مقامه الشريف.
فالله تعالى يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بدافع المحبة لأزواجه وحرصًا على استقرار بيته، وهو أمر مباح. لكن الله أراد أن يعلمنا ويعلم نبيه أن الأولى والأكمل هو تقديم مرضاة الله على مرضاة أحد، وأن ما أحله الله لا ينبغي للمؤمن أن يحرمه على نفسه، خاصة إذا كان ذلك فيه حرج أو مشقة على الآخرين. هذا العتاب يؤكد على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان الأمر ذنبًا لما سُمي “عتابًا” بل “تأنيبًا” أو “عقابًا”، ولأنه جاء فورًا ليصحح المسار ويُظهر كمال الشريعة.
“قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم”: تشريع كفارة اليمين
الآية الثانية، “قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم”، هي بيان تشريعي عظيم. اتفق علماء المسلمون على أن هذه الآية تؤسس لمشروعية كفارة اليمين. فإذا حلف المسلم يميناً ثم رأى خيراً في غيرها، فليحنث في يمينه وليكفر عنها. وهذا يؤكد على يسر الشريعة وسماحتها، حيث لم يترك الله العباد محبوسين في أيمانهم إذا كان في الحنث خير.
يذهب جمهور المفسرين إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد أمر بتكفير يمينه في هذه الحادثة، وأنه فعل ذلك، وهو ما يتفق مع كونه أول من يطبق أحكام الله. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معصومًا، فإنه يُحاسب على بعض تصرفاته البشرية من باب التعليم والتشريع لأمته، وأن الأحكام الشرعية لا تستثني أحداً، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام أعلى.
“قد يهمك: مخاطر الضلال بالقرآن“
“إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما”: تحذير إلهي لأمهات المؤمنين
تستكمل الآيات الأولى من سورة التحريم بتهديد واضح وتوجيه شديد لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: “وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما أنبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير. إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير”. (التحريم: 3-4).
تؤكد الروايات أن الزوجتين اللتين “صغت قلوبهما” و”تظاهرتا” على النبي صلى الله عليه وسلم هما السيدة عائشة والسيدة حفصة رضي الله عنهما. والآية هنا تلومهما على “صغو قلوبهما”، أي ميلهما عن الحق أو عن الموقف الأمثل، وعلى “التظاهر” عليه، أي التعاون أو التواطؤ ضده في أمر قد يسبب له الأذى أو الحرج.
المسلمون (أهل السنة) يرون في هذا الخطاب الإلهي تحذيراً شديداً وموعظة عظيمة لأمهات المؤمنين، اللواتي يحتلن مكانة رفيعة في الإسلام. هذا التحذير يؤكد على أن مكانتهن لا تعصمهن من اللوم الإلهي إذا صدر منهن ما هو خلاف الأولى، وأن عليهن أن يكنّ خير معين للنبي صلى الله عليه وسلم لا أن يكنّ سبباً في حرج له.
الأهم من ذلك، أن المسلمون (أهل السنة) يرون أن هذا التهديد كان تحذيراً وقائياً، وقد تحقق مقصوده. فلم يثبت في الأحاديث الصحيحة أو التاريخ الموثوق أن السيدة عائشة أو السيدة حفصة رضي الله عنهما قد عادتا إلى هذا التظاهر أو أي تصرف يضر بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات. بل دلت الآيات التي تليها، والتي تتحدث عن جزاء التائبين والمتقين، على أنهما قد تابتا واستقامتا، وأن الله قد غفر لهما. أهل السنة يجلّون أمهات المؤمنين ويحترمون مكانتهن كزوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وأوعية للوحي ومربيات للأمة، ويعتقدون أن أي خطأ يصدر منهن هو كأي خطأ يصدر من الصحابة الكرام، لا يقدح في عدالتهن ولا في منزلتهن العامة، ويزول بالتوبة والاستغفار.
منهج أهل السنة في التفسير: الالتزام بالنص والسند الصحيح
يعتمد تفسير سورة التحريم من منظور المسلمون (أهل السنة) على منهج راسخ قائم على:
- القرآن بالقرآن: تفسير الآية بما جاء في آيات أخرى من القرآن الكريم.
- القرآن بالسنة النبوية: الرجوع إلى الأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تبين المراد من الآيات وتوضح أسباب النزول. كتب الصحاح كالبخاري ومسلم هي المرجع الأساسي.
- أقوال الصحابة والتابعين: فهم الآيات كما فهمها السلف الصالح، فهم أدرى الناس بمراد الله ورسوله.
- اللغة العربية: الاستناد إلى قواعد اللغة العربية التي نزل بها القرآن، لفهم المعاني اللفظية.
- العقيدة الصحيحة: التفسير بما يتوافق مع أصول العقيدة الإسلامية، ومنها عصمة الأنبياء ومكانة الصحابة.
هذا المنهج يضمن تفسيراً بعيداً عن الأهواء والتشويش، ومبنيًا على أدلة شرعية محكمة، وهو ما يعكس التوازن والاعتدال في فهم كتاب الله وسنة نبيه.
“قد يهمك: كشف الحقائق وراء الأسماء والأحكام“
فهم سورة التحريم: الخاتمة
تُعد سورة التحريم مثالاً بليغًا على كمال الشريعة الإسلامية ودقة الخطاب الإلهي. إن تفسير سورة التحريم من منظور أهل السنة والجماعة يبرز جانبًا هامًا من جوانب النبوة، وهو مقام النبي صلى الله عليه وسلم كبشر يتلقى الوحي ويُعلّم الأمة، وقد يصدر منه ما هو “خلاف الأولى” ليكون عبرة وتوجيهًا للناس.
هذه الآيات ليست إلا دليلاً على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان أول من يمتثل لأمر ربه ويسارع إلى التوبة والعمل بما أُوحي إليه، كما أنها تؤكد على مكانة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، اللواتي يُعتبرن قدوة حسنة في الامتثال لأمر الله تعالى بعد التحذير. في نهاية المطاف، كل آية في كتاب الله هي نور وهداية، تدعونا إلى التدبر والتعلم، وتعزيز إيماننا بأن القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة والدستور الشامل للحياة.