حين نتحدث عن عملية الكتيبة 183 صاعقة في حرب أكتوبر، فإننا نتحدث عن واحدة من أكثر المهمات بطولية وصعوبة في التاريخ العسكري المصري. في مطلع السبعينات، ومع استعداد القيادة المصرية لحرب التحرير، كانت هناك عقبة كبرى تهدد سير العمليات: الدعم العسكري الإسرائيلي القادم من العمق إلى الجبهة. كان التحدي يتمثل في كيفية تعطيل وصول هذا الدعم في اللحظة الحاسمة، وهو ما كان سيؤثر على مسار الحرب بأكملها.
قائمة المحتويات
ولأن المعركة لا تُكسب فقط بالعدد أو السلاح، بل بالعزيمة والإصرار، وُضعت خطة جريئة لتنفيذ عملية خلف خطوط العدو، مهمتها قطع طرق الإمداد وتعطيل القوات المدرعة الإسرائيلية مهما كان الثمن—even لو كان الموت.
خلفية الحرب: تحديات جغرافية وعسكرية معقدة
سيناء كانت، وما زالت، واحدة من أكثر المناطق الجغرافية تعقيدًا من حيث التضاريس.
جبال وهضاب وكتل صخرية تشكّل موانع طبيعية لأي تحرك عسكري واسع. لذا، كانت هناك ثلاثة محاور رئيسية للعبور داخل سيناء:
- المحور الشمالي بمحاذاة البحر المتوسط.
- المحور الأوسط (محور الطاسة) الممتد شرقًا وغربًا.
- المحور الجنوبي عبر ممرات جبلية ضيقة.
استغلت إسرائيل هذه الطبيعة، فأقامت سلسلة من التحصينات والموانع تبدأ من قناة السويس إلى خط بارليف الشهير، مع ساتر ترابي بارتفاع يصل إلى 25 مترًا، ونقاط حصينة متصلة ببعضها البعض، مدعومة بشبكة من خزانات النابالم الجاهزة لتحويل القناة إلى جحيم ناري.
لكن هذه التحصينات كانت فقط النسق الأول من الدفاعات، أما النسق الثاني فكان عبارة عن قوات مدرعة متحركة متمركزة في عمق وشمال سيناء، جاهزة لدعم خط بارليف عند أي محاولة اختراق.
الهدف المصري: تعطيل الإمدادات الإسرائيلية

الخطة المصرية كانت دقيقة ومحسوبة:
- عبور قناة السويس.
- إزالة الساتر الترابي.
- إنشاء الجسور لعبور الدبابات والمدرعات.
- ثم تأمين رؤوس الكباري لحماية الجسور من أي هجوم مضاد.
لكن نجاح هذه الخطوات كان مرتبطًا بأمر واحد: تأخير وصول القوات الاحتياطية الإسرائيلية. ولذلك، كُلِّفت الكتيبة 183 صاعقة بمهمة مستحيلة — التوغل في عمق سيناء بعمق يتجاوز 25 كيلومترًا، خلف خطوط العدو، دون غطاء جوي أو حماية أرضية.
“اطلع على: أسرار المخابرات المصرية“
التحضير للبطولة: خطة محكمة وخداع استراتيجي
قاد المقدم سمير عبد الرحمن زيتون الكتيبة 183 صاعقة، التي تلقت أوامر التحرك مساء الجمعة 5 أكتوبر 1973. تحركت الكتيبة من منطقة الهرم بالجيزة إلى الإسماعيلية مرورًا بعدة طرق فرعية، في إطار خطة خداع استراتيجي دقيقة هدفت إلى إخفاء تحركاتها عن أعين الاستخبارات الإسرائيلية. ولضمان السرية، كان التحرك ليلًا، مع تنفيذ خدع بصرية تجعل العدو يعتقد أن العربات عائدة من الجبهة لا متجهة إليها.
بداية العملية: “ابقوا على قيد الحياة لأربع ساعات فقط”
في ظهر السادس من أكتوبر 1973، وبعد اندلاع الحرب بساعات، فُتح مظروف العملية، وجاء فيه الأمر التالي: “المطلوب تعطيل الألوية المدرعة الإسرائيلية ومنعها من الوصول لدعم قواتها على الأقل لمدة أربع ساعات.” كانت تلك أربع ساعات من الخلود، حيث عُهد إلى الكتيبة بمهمة لا يُنتظر منها نجاة، بل إنجاز قبل الشهادة.
تقسيم القوات: ثلاث سرايا وثلاثة محاور
تم تقسيم الكتيبة إلى ثلاث سرايا:
- السريّة الأولى بقيادة النقيب حمدي شلبي والنقيب علي نجم لتنفيذ كمين في المحور الشمالي.
- السريّة الثانية بقيادة النقيب عبد الله رزق لتنفيذ كمين على محور “شعير”.
- السريّة الثالثة بقيادة المقدم سمير زيتون لتنفيذ كمين على محور “الطاسة”.
تحركت السرايا بطائرات هليكوبتر MI-8، منخفضة الارتفاع لتجنب الرصد، لكن ما حدث بعدها غيّر مجرى العملية بالكامل.
“اطلع على: معركة طابا“
المأساة الجوية: صدام مع الفانتوم
رصدت طائرات فانتوم إسرائيلية السريتين الثانية والثالثة أثناء التحليق، فتعرضت الطائرات المصرية لهجوم مباغت. لم تكن هناك أي فرصة للمناورة — طائرات نقل بطيئة في مواجهة مقاتلات نفاثة. في دقائق، سقطت 12 طائرة واحدة تلو الأخرى، واستُشهد معظم الأبطال، ولم ينجُ سوى خمسة، من بينهم المقدم سمير زيتون والملازم طارق محمد وديع.
النجاة بالصدفة: السريّة الأولى تتفادى الكارثة
أما السريّة الأولى، التي أقلعت من مطار الصالحية، فقد أنقذها قرار ذكي من قائد التشكيل بالهبوط قبل النقطة المحددة بخمسة كيلومترات لتفادي طائرات العدو. تم إنزال القوة بسلام، بينما دُمّرت كل الطائرات العائدة، مما أنقذ السريّة بأكملها لتكمل طريقها نحو الهدف سيرًا على الأقدام.
رحلة الجحيم عبر الملاحات وحقول الألغام
كان على الأبطال أن يسيروا عشرة كيلومترات في عمق سيناء، عبر طريق الملاحات القاسي، حيث كانت الملوحة تآكل الجلد. حمل المقاتلون أسلحتهم فوق رؤوسهم ليحموها من المياه، حتى وصلوا إلى حقول ألغام وسياج شائك. تقدم القائد بنفسه أولًا، وسار الجميع خلفه خطوة بخطوة لتفادي الانفجار. كانت تلك مسيرة الموت في صمت نحو المجد.
كمائن البطولة: مواجهة الدبابات الإسرائيلية
بعد اختراق الموانع، انقسمت القوة إلى مجموعتين:
- مجموعة علي نجم لتنفيذ كمين “رجل الغراب”.
- مجموعة حمدي شلبي لإقامة كمين آخر على بعد 3 كيلومترات.
ومع بزوغ الفجر، ظهرت قوة استطلاع إسرائيلية تتألف من ثلاث دبابات وعربات مدرعة. لم يتعامل النقيب علي نجم معها، انتظارًا للهدف الأكبر: اللواء المدرع الإسرائيلي رقم 217 بقيادة العقيد تاي نير.
الاشتباك الأعنف: حين صمد 15 بطلاً أمام لواء مدرع

بسبب وصول قوة الاستطلاع إلى كمين حمدي شلبي قبل اكتمال استعدادهم، وقع اشتباك عنيف استُشهد خلاله معظم الأبطال، ولم ينجُ سوى 15 مقاتلًا. أما علي نجم ومجموعته، فقد تركوا اللواء الإسرائيلي يتقدم حتى دخل بالكامل في منطقة الكمين، ثم أطلقوا أول قذيفة RPG لتصيب الدبابة الأولى، فاشتعلت النيران في مقدمة اللواء. تتابعت الضربات، وتحوّل الطريق إلى نقطة ارتباك تام داخل صفوف العدو، حيث فشل الإسرائيليون في تحديد مصدر النيران وسط الظلام.
ساعات الخلود: “أربع ساعات” صارت أسطورة
استمرت الكتيبة في الاشتباك والتخفي لعدة ساعات، منعوا خلالها اللواء الإسرائيلي من التقدم نحو قناة السويس. لقد نفذ الأبطال المهمة التي بدت مستحيلة: تعطيل الدعم الإسرائيلي تمامًا لمدة تزيد عن أربع ساعات، مما ساعد الجيش المصري على تثبيت رؤوس الكباري وتأمين الجسور. كانت تلك عملية خلف خطوط العدو لا يُكتب عنها سوى كلمة واحدة: البطولة.
“قد يهمك: الوجه الآخر لأنور السادات”
بطولات فردية وملامح التضحية
من المقدم سمير زيتون الذي واصل القتال رغم إصابته، إلى علي نجم الذي قاد رجاله في الظلام، ومن الملازم طارق وديع الذي فجّر سيارة العدو بقنبلة يدوية، إلى آخر جندي صاعقة سار في الملاحات المملحة…
كل واحد من هؤلاء الأبطال كتب سطرًا خالدًا في سجل المجد العسكري المصري.
النتائج والتأثير على سير الحرب
ساهمت عملية الكتيبة 183 صاعقة بشكل مباشر في:
- تأمين العبور المصري في الساعات الأولى من الحرب.
- شلّ حركة القوات الاحتياطية الإسرائيلية.
- رفع الروح المعنوية للجيش المصري بعد تنفيذ واحدة من أخطر العمليات خلف خطوط العدو.
وقد اعتُبرت هذه العملية نقطة تحول في حرب أكتوبر من حيث تكتيك “الإبرار الجوي” وعمليات الكوماندوز الخاصة.
“اطلع على: عميلة المخابرات المصرية داخل سلاح الجو الإسرائيلي“
أسئلة شائعة حول عملية الكتيبة 183 صاعقة في حرب أكتوبر
1. ما الهدف من عملية الكتيبة 183 صاعقة؟
كان الهدف تعطيل الألوية المدرعة الإسرائيلية ومنعها من دعم قواتها على خط بارليف لمدة لا تقل عن أربع ساعات.
2. من قاد الكتيبة في العملية؟
قاد العملية المقدم سمير عبد الرحمن زيتون، وهو من أبرز ضباط الصاعقة المصرية في ذلك الوقت.
3. كم عدد السرايا المشاركة في العملية؟
شاركت ثلاث سرايا، كل منها مكلفة بمحور مختلف داخل سيناء.
4. ما نتيجة العملية؟
رغم سقوط العديد من الأبطال، نجحت العملية في تحقيق هدفها الاستراتيجي بدقة تامة.
5. لماذا تُعد العملية من أعظم بطولات الصاعقة؟
لأنها نُفذت في عمق العدو دون غطاء جوي، وسط تضاريس صعبة، وحققت هدفها رغم استشهاد معظم المشاركين.
الخاتمة: دماء صنعت النصر
إن عملية الكتيبة 183 صاعقة في حرب أكتوبر ليست مجرد قصة بطولية، بل رمز للإيمان، والعقيدة القتالية، والواجب المقدس. لقد جسدت هذه العملية معنى التضحية والفداء، وساهمت بشكل مباشر في تحقيق النصر المجيد في السادس من أكتوبر 1973.ولعل أعظم تكريم لهؤلاء الأبطال هو أن تبقى قصتهم حاضرة في ذاكرة الأجيال، تروي كيف صُنعت الحرية بدماء رجال لا يُنسَون.

مها أحمد كاتبة ومدونة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين التجربة الشخصية والتحليل الموضوعي. تكتب عن قضايا اجتماعية وثقافية وفكرية بأسلوب سلس يلامس اهتمامات القارئ اليومية.
تمتاز بأسلوبها العفوي الذي يدمج بين الطابع الشخصي والتعبير الحر، مما يجعل التدوينات قريبة من القارئ وواقعية. كما تحرص على طرح أفكار جديدة ومناقشة قضايا مجتمعية بطريقة مفتوحة للنقاش.
من خلال مدوناتها، تسعى مها أحمد إلى مشاركة الأفكار والخبرات وتبادل الرؤى مع الجمهور، لتجعل من التدوين مساحة للتواصل والإلهام.