تخيل عقلاً عظيمًا عالمًا لم توقفه الحدود، ولم تحدده الثقافات، ولم تقف أمام نهمه المعرفي لغة أو دين. هذه هي قصة أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، أحد أعظم العلماء في تاريخ البشرية على الإطلاق، ورجل سبق عصره بقرون ووضع أسس العلوم بطريقة تصدم العقل بعبقريتها ودقتها.
قائمة المحتويات
في زمن كان فيه كثيرون يكتفون بالتقليد، اختار البيروني درب الابتكار والبحث العلمي الأصيل، متجاوزًا كل الحواجز ليترك إرثًا لا يزال يُلهم العلماء والمفكرين حتى يومنا هذا. هذا المقال سيسبر أغوار حياة البيروني وإنجازاته التي لا تزال محل إعجاب وتقدير، مبرزًا كيف كانت رؤيته العلمية سابقة لزمانه بكثير.
البيروني: نشأة عقل لا يعرف الحدود
وُلد البيروني في عام 362 للميلاد (973م) على أطراف بحر الخزر، في منطقة كانت مصهرًا للثقافات والحضارات. تيتم مبكرًا، لكن هذا لم يكن إلا بداية لرحلة ملؤها التحدي والتعلم الذاتي. لم يقف اليتم عائقًا أمام طموحه، بل ربما حفز فيه روح الاستقلال والاعتماد على الذات في طلب العلم. انطلقت نهمته المعرفية مبكرًا جدًا، فلم يكتفِ بلغة واحدة، بل تعلم:
- العربية
- الفارسية
- السريانية
- العبرية
- اليونانية
- بالإضافة إلى فهمه للغات الهند
هذا التعدد اللغوي كان مفتاحًا له لفهم أعمق للحضارات المختلفة والاطلاع على كنوز المعرفة التي أنتجتها الشعوب المتنوعة. لقد كان البيروني يؤمن إيمانًا راسخًا بأن المعرفة لا تعرف وطنًا، وأن الحكمة هي ضالّة المؤمن أينما وجدها. هذا المبدأ العميق وجه مساره العلمي، ودفعه للبحث عن الحقيقة في كل مصدر، دون تحيز أو تعصب. لم يكن يرى في اختلاف اللغات والثقافات حواجز، بل فرصًا للتعلم والاكتشاف.
الفلك: قمة عبقرية البيروني في رصد السماء وقياس الأرض
قياس محيط الأرض
لا يمكننا الكلام عن البيروني دون أن نشير إلى علمه الفلكي الفذ. فقد كان رائدًا فيه بكل ما تعنيه الكلمة، ليس فقط نظريًا، بل عمليًا وتطبيقيًا. صمم آلات رصد ضخمة ودقيقة لزمانه، مكنته من إجراء قياسات فلكية شديدة الدقة.
لكن إنجازه الأكثر إبهارًا في هذا المجال كان قياس محيط الأرض بطريقة علمية مبتكرة سبقت عصرها بقرون. تخيل أنه في القرن الحادي عشر، استطاع أن يحسب محيط الأرض بقياس زاوية انخفاض قمة جبل من سهل واطئ. وقد أتت نتائجه قريبة جدًا من القيمة الفعلية التي نعرفها اليوم باستخدام أحدث التقنيات. لقد كان عملًا فريدًا وثوريًا بكل المقاييس، يبرهن على عمق فهمه للرياضيات والفلك والجغرافيا.
كتاب القانون المسعودي
ولكن انجازه الأعظم على صعيد الفلك ربما يكمن في كتابه الخالد “القانون المسعودي في الهيئة والنجوم”. هذا المؤلف الهائل الذي قدمه للسلطان محمود الغزنوي لم يكن مجرد تلخيص لمعارف الحضارات السابقة في الفلك، بل هو موسوعة شاملة أضاف إليها البيروني ملاحظاته واستنتاجاته الدقيقة التي توصل إليها بفضل رصده الدائم وبحثه المستمر.
لقد كان هذا الكتاب بمثابة مئذنة علمية شامخة رفعت مبنى المعرفة الفلكية إلى علو جديد، وجمع فيه خلاصة قرون من البحث الفلكي، موضحًا:
- حركة الأجرام السماوية
- جداول فلكية دقيقة
- مناقشة نظريات الفلكيين القدماء بأسلوب نقدي وموضوعي
إن “القانون المسعودي” يبقى حتى اليوم شاهدًا على عبقرية البيروني الفذة في علم الفلك.
رحلة الهند: البيروني سفيراً للمعرفة في قلب الحضارات

رغم عظمته في الفلك، لم يكن البيروني محبوسًا في برج عاجي من تخصصه. فقد رحل مع جيش السلطان محمود الغزنوي إلى الهند، ولكنه لم يكن محاربًا بل كان رسول معرفة حقيقيًا. استغل هذه الفرصة الذهبية ليغوص في أعماق الحضارة الهندية العتيقة، دارسًا فلسفتها وأديانها وعلومها ولغاتها. لم يكتفِ بالفهم السطحي، بل ناقش وحلل وقارن بعقلية علمية حديثة تفوق زمانه بكثير. كان منهجه يتسم بالموضوعية التامة، محاولًا فهم الآخر من الداخل دون أحكام مسبقة.
كتاب تحقيق ما للهند
ثم كتب مؤلفه الخالد “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة”. هذا الكتاب ليس مجرد وصف لحضارة الهند، بل هو أول كتاب في علم مقارنة الأديان وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) بمفهومه العلمي الحديث.
فيه تجد:
- تحليلًا موضوعيًا نادرًا
- احترامًا عميقًا للآخر
- وصفًا للعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية
- دراسة للأديان والفلسفات الهندية بعين الباحث المتجرد
هذا العمل الفريد يبرز قدرة البيروني على فهم الثقافات المعقدة وتقديمها للقارئ بطريقة منظمة ومحللة، مما يجعله بحق مؤسسًا لعلم مقارنة الأديان والأنثروبولوجيا.
“قد يهمك: بابك الخرمي“
الجغرافيا والجيولوجيا: رؤية البيروني الشاملة للأرض
لم تقتصر عبقرية البيروني على الفلك والفلسفة، بل كان عالم جغرافيا وجيولوجيا بارزًا أيضًا. وصف الأرض وتضاريسها بدقة، وشرح كيفية وجود الآبار والعيون، وقدم نظريات حول تشكل الجبال والوديان.
إسهاماته الجيولوجية
- تكهن بوجود قارات لم تكن معروفة في زمانه
- تحدث عن تغيرات سطح الأرض بفعل التعرية والترسيب
- قدّم تفسيرات علمية لظواهر طبيعية مثل الزلازل وتكون الجبال
كان يملك فكرًا جغرافيًا تأمليًا ينظر إلى الكرة الأرضية ككل مترابط، حيث تتفاعل القوى الطبيعية لتشكل سطح الكوكب. هذه النظرة الشاملة تكشف عن عقلية علمية متفوقة تمكنت من الربط بين الملاحظات الظاهرية والتحليلات العميقة، مقدمًا بذلك إسهامات جوهرية في فهمنا لكوكب الأرض.
“قد يهمك: تاريخ الدولة الأموية“
التاريخ والصيدلة: منهجية البيروني العلمية في توثيق الزمن والعلاج

علم التاريخ
في علم التاريخ، أبدع البيروني طريقة جديدة وعلمية لتحديد التواريخ ومقارنة التقاويم بعضها ببعض. في كتابه الخالد “الآثار الباقية عن القرون الخالية”، لم يكتب مجرد سرد للأحداث، بل حللها وقارن بين تقاويم الشعوب المختلفة:
- الفرس
- الروم
- العبرانيين
- العرب
وضع بذلك أسس التاريخ العلمي الدقيق، وكان يسعى دائمًا إلى الحقيقة الموضوعية، متجردًا من العواطف والتحيزات، وهو ما يميز المؤرخ الحقيقي.
علم الصيدلة
ولا يمكننا إغفال دوره كعالم صيدلة وأعشاب. فقد كتب كتاب “الصيدلة في الطب”، وهو من أهم المؤلفات في هذا المجال والذي بقي مرجعًا أساسيًا لمدة طويلة. جمع فيه:
- خبرات الشعوب ومعارفها في العلاج بالنباتات والأعشاب (Herb)
- ملاحظاته التجريبية الدقيقة
- منهجًا قائمًا على التجربة والملاحظة لتحديد خصائص النباتات الطبية
مما جعله مؤسسًا لعلم الصيدلة الحديث. هذا الكتاب يمثل ثورة في المنهج الطبي، حيث تجاوز التداوي التقليدي إلى البحث العلمي الممنهج.
“اطلع على تاريخ السبئية“
إرث البيروني الخالد: عقل موسوعي لا يحده زمن
ترك لنا البيروني إرثًا هائلًا يزيد على 160 مؤلفًا، لكن للأسف الكبير أن غالبها قد ضاع مع تقلبات التاريخ والحروب والكوارث. وما بقي منها، رغم قلته، يكشف لنا عن عقل عميق وروح علمية نقية وشغف بالمعرفة لا يُعقل. لقد كان بحق “سيد عصره” و”معلم الأجيال”.
توفي هذا العالم العظيم في غزنة عام 448 للميلاد (1048م) بعد أن أضاء بعلمه طريق البشرية لأكثر من 80 عامًا. وقد قيل إنه حين حضرته الوفاة كان يناقش بعض تلاميذه في مسألة علمية معقدة، ليكون آخر ما غادر الدنيا به هو الحوار العلمي. مشهد يلخص حياته كلها التي قضاها في طلب العلم ونشره.
“اطلع على: ملوك الترك“
الخاتمة: أبو الريحان البيروني أيقونة المعرفة والإلهام الدائم
في الختام، لقد كان البيروني ندًا لعظماء العلم مثل ابن سينا، والذي تواصل معه وتحاور برسائل علمية رائعة، ما يدل على مكانته العلمية الرفيعة. لقد جسد الروح العلمية بأصالتها وأجلى صورها:
- التجرد والموضوعية
- الحب الغامر للمعرفة
- الإيمان بوحدة الحقيقة
كان عالمًا للعالم، وإنسانًا للإنسانية، وعقلًا أضاء في ظلمات الجهل. إسهاماته المتعددة في الفلك، والجغرافيا، والجيولوجيا، والتاريخ، والصيدلة، وعلم مقارنة الأديان، تجعله أيقونة حقيقية في تاريخ العلم.
سيظل اسم البيروني شامخًا في سجل العظماء ما بقيت المعرفة، وستظل أعماله مصدر إلهام لكل من يسعى إلى فهم العالم بعمق وموضوعية. لقد قدم نموذجًا للعالم الشامل الذي يربط بين مختلف فروع المعرفة، ويؤمن بوحدة الحقيقة، متجاوزًا الحدود الجغرافية والثقافية والزمنية. البيروني لم يكن مجرد عالم، بل كان رؤية للمستقبل، ورمزًا لعبقرية الإنسان في سعيه الدائم نحو النور.

مها أحمد كاتبة ومدونة تقدم محتوى متنوعًا يجمع بين التجربة الشخصية والتحليل الموضوعي. تكتب عن قضايا اجتماعية وثقافية وفكرية بأسلوب سلس يلامس اهتمامات القارئ اليومية.
تمتاز بأسلوبها العفوي الذي يدمج بين الطابع الشخصي والتعبير الحر، مما يجعل التدوينات قريبة من القارئ وواقعية. كما تحرص على طرح أفكار جديدة ومناقشة قضايا مجتمعية بطريقة مفتوحة للنقاش.
من خلال مدوناتها، تسعى مها أحمد إلى مشاركة الأفكار والخبرات وتبادل الرؤى مع الجمهور، لتجعل من التدوين مساحة للتواصل والإلهام.