لا شك أن اغتيال محمد بوضياف شكّل واحدة من أعنف الصدمات السياسية في تاريخ الجزائر الحديث، حيث قُتل الرئيس على الهواء مباشرة يوم 29 يونيو 1992 أمام ملايين المشاهدين. لم يكن الحدث مجرد جريمة عابرة، بل كان بداية لسيل من التساؤلات التي لم تهدأ حتى اليوم.
الرجل الذي ارتبط اسمه بالثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وعاد بعد 28 سنة من المنفى ليقود البلاد في أصعب مراحلها، سقط ضحية رصاصات غادرة أطلقها حارس من فريقه الرئاسي. لكن هل كان هذا القاتل مجرد منفذ منفرد، أم واجهة لمخطط أكبر داخل مراكز السلطة؟
قائمة المحتويات
في هذا المقال سنخوض رحلة طويلة تتجاوز الـ 3000 كلمة، نستعرض فيها حياة محمد بوضياف، مسيرته السياسية، ظروف عودته إلى الحكم، ثم نغوص في تفاصيل اغتياله والفرضيات التي أُثيرت حول الحادثة، لنفهم كيف أصبح “الرجل المناسب في الوقت غير المناسب”.
من هو محمد بوضياف؟
وُلد محمد بوضياف يوم 23 يونيو 1919 في منطقة المسيلة شرق الجزائر، وسط عائلة كبيرة وذات مكانة اجتماعية. تلقى تعليمه الثانوي، ثم التحق بالإدارة الفرنسية كملحق إداري، شأنه شأن العديد من الجزائريين الذين سعوا للتكيف مع المنظومة الاستعمارية.
- التجربة العسكرية المبكرة:
خلال الحرب العالمية الثانية التحق بوضياف بالجيش الفرنسي عام 1942 كعريف، وشارك في معارك مهمة مثل معركة “مونت كاسينو” بإيطاليا عام 1944. هذه التجربة زرعت داخله إحساساً عميقاً بمعنى الحرية، خاصة عندما شاهد فرنسا تعاني من الاحتلال الألماني لكنها ترفض في الوقت نفسه منح الحرية لشعوبها المستعمَرة.
محمد بوضياف والثورة الجزائرية
بعد مجازر 8 مايو 1945، والتي قُتل فيها حوالي 45 ألف جزائري على يد القوات الفرنسية، انضم بوضياف إلى حزب الشعب الجزائري. وفي عام 1947 ساعد على تأسيس “المنظمة الخاصة”، الجناح العسكري السري الذي مهّد لانطلاق الثورة الجزائرية.
- مجموعة الـ 22 وانطلاق الثورة:
في 1954 كان بوضياف أحد أعضاء “مجموعة الـ 22” السرية التي اتخذت قرار إطلاق الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي. ومع فجر الأول من نوفمبر 1954، كان اسمه بين القادة التاريخيين الستة الذين فجّروا الثورة الجزائرية.
- الاعتقال والنفي:
عام 1956 اعترض الجيش الفرنسي طائرة كانت متجهة من الرباط إلى القاهرة، وكان بوضياف على متنها مع قادة الثورة مثل أحمد بن بلة. اعتُقلوا جميعاً وسُجنوا حتى مفاوضات إيفيان 1962 التي مهدت لاستقلال الجزائر.
صراعه مع رفاق الثورة بعد الاستقلال

- الخلاف مع أحمد بن بلة:
بعد الاستقلال تولى أحمد بن بلة رئاسة الجزائر، لكن الخلافات سرعان ما ظهرت بينه وبين بوضياف. اتهم بوضياف بن بلة بالسعي للاستئثار بالسلطة، فأعلن انسحابه من جبهة التحرير الوطني، وأسس حزب “الثورة الاشتراكية” عام 1962.
- السجن ثم المنفى الطويل:
تعرض بوضياف للاعتقال عدة مرات بين 1963 و1964 بسبب انتقاداته للنظام، قبل أن يقرر مغادرة الجزائر نهائياً ليستقر في المغرب عام 1965. هناك انشغل بالأعمال، وأسس شركة مقاولات، كما كتب مؤلفات سياسية أبرزها كتابه “إلى أين تمضي الجزائر؟”.
عودة محمد بوضياف إلى الحكم بعد 28 سنة
- الجزائر في العشرية السوداء:
بحلول مطلع التسعينيات كانت الجزائر على حافة الانهيار. فقد فازت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” بالانتخابات التشريعية عام 1991، لكن الجيش ألغى النتائج وأعلن حالة الطوارئ، مما أشعل حرباً أهلية عُرفت بـ”العشرية السوداء”.
- استدعاء بوضياف لإنقاذ الوضع:
في يناير 1992 استقال الرئيس الشاذلي بن جديد تحت ضغط الجيش، ووجدت البلاد نفسها في فراغ سياسي خطير. قرر الجنرالات استدعاء محمد بوضياف من منفاه بالمغرب لتولي رئاسة “المجلس الأعلى للدولة”، معتبرين أن تاريخه الثوري يمنحه الشرعية لقيادة مرحلة انتقالية.
- بداية مشروع الإصلاح:
فور عودته أعلن بوضياف حرباً على الفساد، وتعهد بإعادة بناء الدولة على أسس جديدة. لاقت تصريحاته صدىً واسعاً بين الشعب، لكنها في الوقت نفسه أقلقت مراكز النفوذ التي رأت في مشروعه تهديداً لمصالحها.
“قد يهمك: نهاية عمر المحيشي“
يوم اغتيال محمد بوضياف
في 29 يونيو 1992، كان بوضياف يلقي خطاباً في المركز الثقافي بمدينة عنابة، بحضور مسؤولين وشخصيات عامة، بينما كانت الكاميرات تنقل المشهد مباشرة عبر التلفزيون. فجأة دوى انفجار صغير في القاعة، تبعته رصاصات أطلقها حارسه الشخصي الملازم “لمبارك بومعرافي”، فأصابت الرئيس إصابات قاتلة. سقط بوضياف أمام أعين الجزائريين، ونُقل إلى المستشفى لكنه فارق الحياة بعد دقائق. المشهد كان صادماً، ليس فقط لأنه اغتيال لرئيس دولة، بل لأنه جرى على الهواء مباشرة، ومن قبل أحد أفراد حراسته الذين وُجدوا لحمايته.

الملابسات الغامضة في اغتيال بوضياف
رغم إعلان القبض على القاتل بومعرافي، إلا أن تفاصيل الحادثة كانت مليئة بالتناقضات:
- تأخر وصول سيارة الإسعاف أكثر من 20 دقيقة.
- غياب كبار المسؤولين عن الحدث بشكل مثير للشبهات.
- حذف لقطات من تسجيل الاغتيال قبل عرضها على الجمهور.
- تضارب بين القضاء العسكري والمدني بشأن محاكمة القاتل.
كل هذه المؤشرات فتحت الباب أمام نظريات المؤامرة، خاصة أن بوضياف كان بصدد كشف ملفات فساد كبرى داخل مؤسسات الدولة.
“تعرف على أسباب إغلاق الحكومة الأمريكية“
النظريات حول اغتيال محمد بوضياف
- قرار من أعلى هرم السلطة: بعض التحليلات ترى أن اغتيال بوضياف كان نتيجة قرار أمني على أعلى مستوى، خشية أن تؤدي إصلاحاته إلى هز استقرار الدولة.
- صراع الأجنحة داخل المؤسسة العسكرية: وهو الاحتمال الأقوى بحسب كثير من الباحثين. فقد دخل بوضياف في صدام مباشر مع جنرالات نافذين، وسعى لتقليص نفوذهم وكشف ملفاتهم.
- دور الجماعات الإسلامية: النظام الرسمي حاول ربط الاغتيال بالجبهة الإسلامية للإنقاذ، لكن هذه الرواية لم تصمد طويلاً، لغياب الأدلة المباشرة.
- الفعل الفردي لبومعرافي: اللجنة الرسمية ذكرت أن القاتل تصرف منفرداً بدوافع دينية، لكن تساؤلات حول كيفية دخوله بالسلاح وسط الحماية الرئاسية أضعفت هذه الفرضية.
- تدخل خارجي: بعض الفرضيات أشارت لاحتمال تورط دول مثل فرنسا، بحكم مصالحها الاستراتيجية في الجزائر، لكن دون أدلة قاطعة.
شهادة محمد سمراوي: قراءة مختلفة
في كتابه “وقائع سنين الدم”، كشف الضابط السابق في المخابرات محمد سمراوي أن اغتيال بوضياف كان نتيجة مخطط داخلي من جنرالات نافذين. أكد أن الرئيس حاول تطهير مؤسسات الدولة وعزل قيادات عسكرية بارزة، ما جعله هدفاً مباشراً. كما أشار إلى أن القنبلة التي استُخدمت في الحادثة كانت قد سُرقت من مكتب رسمي قبل يومين فقط، ما يعزز فرضية التواطؤ.
“اطلع على: معلومات عن أبو الريحان البيروني“
ردود الفعل على اغتيال بوضياف
- في الجزائر:
انقسم الشارع الجزائري بين من رأى في بوضياف “شهيداً” جاء لإنقاذ الوطن، ومن اتهمه بأنه عاد على ظهر دبابات الجيش الذي ألغى الانتخابات. جنازته شهدت هتافات غاضبة ضد النظام، وتحولت إلى رسالة سياسية أكثر من كونها وداعاً وطنياً.
- عربياً ودولياً:
حضر الجنازة عدد من القادة العرب مثل ياسر عرفات، إضافة إلى شخصيات أجنبية. أما فرنسا، فقد اكتفت بموقف رسمي مقتضب، رغم أن أصابع الاتهام وُجهت إليها بشكل غير مباشر.
الرسائل الغامضة للقاتل
بعد فترة قصيرة من الاغتيال، أرسل بومعرافي رسالة إلى عائلة بوضياف، قال فيها إنه كان ينوي تنفيذ عملية ضد رموز “النظام الفاسد”، لكنه لم يكن يعتبر بوضياف واحداً منهم. هذه الرسالة فتحت باباً جديداً من الغموض، وجعلت كثيرين يشككون في حقيقة دوره.
اغتيال محمد بوضياف: جريمة سياسية بامتياز
عندما نضع كل الخيوط معاً، من غياب كبار المسؤولين يوم الحادث، إلى تضارب القضاء، إلى اختفاء بعض الأدلة، يصبح من الصعب اعتبار اغتيال بوضياف مجرد فعل فردي. الأرجح أنه كان ضحية صراع داخلي في المؤسسة العسكرية، حيث اصطدمت إرادته الإصلاحية مع مصالح متجذرة لم تحتمل وجوده.
“تعرف على: مذابح العباسيين ضد الأمويين“
اغتيال محمد بوضياف: الخاتمة
اغتيال محمد بوضياف لم يكن مجرد حدث دموي في تاريخ الجزائر، بل علامة فارقة كشفت هشاشة النظام السياسي، وهيمنة صراع الأجنحة على حساب مصلحة الوطن. الرجل الذي عاد بعد 28 عاماً من الغياب ليعيد الأمل لشعبه، رحل بعد 166 يوماً فقط في الحكم، ليترك وراءه أسئلة لم تُجب حتى اليوم: من قتل بوضياف؟ ولماذا؟ ربما يظل الجواب الحقيقي مدفوناً في أرشيف الدولة، لكن المؤكد أن ذكرى اغتياله ستبقى درساً للأجيال عن مخاطر الصراع على السلطة، وكيف يمكن أن يُضحى بأبطال التاريخ في سبيل مصالح ضيقة.

الاسم/ علي أحمد، كاتب متخصص في المقالات الإخبارية والترندات الحالية التي تشغل اهتمام الكثير من الأشخاص في الدول العربية، كما نقوم بنشر مقالات عامة متنوعة تُزيد من ثقافة القارئ العربي. لدينا خبرة طويلة في مجال المقالات الإخبارية والترندات والمقالات العامة المتنوعة، ونعتمد على المصادر الموثوق فيها لكتابة محتوى هذه المقالات. هدفنا هو إيصال المعلومات الصحيحة للقارئ بشكل واضح ومباشر.
يتميز علي أحمد بكتاباته التي تغطي مجموعة واسعة من المقالات العامة والأخبار العاجلة والموضوعات الرائجة. يجمع في طرحه بين السرعة في مواكبة الأحداث والدقة في نقل المعلومات، ليقدم للقارئ صورة واضحة وشاملة.
يركز على تحليل الأحداث بموضوعية وحياد، مع تقديم خلفيات مختصرة تساعد القارئ على فهم الخبر في سياقه. كما يعرض مقالات متنوعة حول الترندات الاجتماعية والتكنولوجية والثقافية، مما يجعل محتواه مناسبًا لجمهور واسع. كتاباته تعكس حرصًا على أن يكون الموقع دائمًا في قلب الحدث، مع محتوى جذاب يواكب اهتمامات القراء ويثير النقاش حول أبرز القضايا المعاصرة.