الشعر الحديث ليس تنكرا بل بحثا عن الأنا في ظل الحضارة

محمد اسماعيل

كتب: الروائي محمد اسماعيل 

إن رغبة المبدع العربي في كسر قيود الشكل الفني القديم ليس بالكاد انبهارا بالغرب وافتتانا به، ولا تمردا ونقمة على التراث، بل دافعها البحث عن الأنا في الحاضر، وإلا فكيف ينطلق الإبداع من داخل الذات ليعبر عن الأنا وما أثر فيها واقعيا وحضاريا، وهو لا زال أسير البنية القديمة والشكل الكلاسيكي؟!فالأنا في أزمة، والإبداع العربي في أزمة كذلك، ونحن بدلا من أن نبحث عن حلول لتلك الأزمات أخذنا نتهم بعضنا بالاستغراب والتنكر من الهوية، وبالتخلف ومعاداة الحضارة! ورأيي الشخصي كقاريء جيد وليس ككاتب وهي منطقة الأمان التي لا يتطرق أحد إليها…  

اتباع الحداثة 

إن اتباع الحداثة ليس عيبا ولا جريمة بل حتمية، وليست رفاهية كذلك، ولا يكون ذلك إلا بالتمرد على الذهنية الفنية القديمة لا لكونها فاشلة، بل لأنها أفضت إلى ما قدمت، وأضرب لكم مثالا واحدا وهو: كما أننا لا يمكننا أبدا أن نتمسك بمنهج “أم جندب” النقدي في نقد شعر زوجها “امريء القيس”، حيث كان حكمها جازما وقالت له: إن علقمة أشعر منك. 

منهج أم جندب زوجة امرئ القيس 

والتعليل النقدي لأبيات امريء القيس محل النقد لم يكن منهجيا ولا علميا، بل بمعيار العرف والمجتمع، وكان العيب الذي رأته أم جندب في شعر امريء القيس هو أنه أراد وصف الفرس وهو يهرول نحو الصيد بأنه ضعيف، حتى أن الأبيات تصف ضرب الشاعر لفرسه بالسوط ووخزه بالقدم حتى أتعبه، بينما علقمة وصف المشهد في أبياته أنه لمجرد أن ثنى عنق الفرس إلا وانطلق كالريح.

ورغم أن أم جندب عابت الشاعر لعيب في الفرس داخل الأبيات وليس عيبا بنيويا ولا معرفيا وغير ذلك، إلا أن السائد في النقد حينها هو الاعتبار بالعرف والمجتمع، وأن الشاعر يجب ألا يصف وصفا واقعيا بل يتطلع للصورة الكاملة المثالية. 

فهل يمكن لعاقل أن يتبنى حاليا هذا المنهج حرفيا وأن يعيب شاعرا لوصفه سيارته بأنها تعطلت وهو في طريقه من المنصورة للقاهرة؟، حيث أن الشاعر يجب أن يتطلع للصورة الكاملة ويحذو حذو علقمة بأن يصف سيارته المجنحة الفخمة كالبرق على الأسفلت!!  فما بال المعيار الاجتماعي المختلف هنا ومن مجتمع لآخر؟ هذا إن أردنا تطبيق المنهج كقاعدة واعتبار مكونات الواقع الحالي واختلافه عن الماضي، فما بالك لو أن المنهج صار أكثر تطورا لتطور النظريات الفلسفية التي امتدت لكل شيء حديث، وبالتفصيل في حياتنا، وبالتالي تأثر بها النقد والأدب والفنون تباعا وحتميا.

منهج ابن قتيبة في نقد الشعر

 وأيضا هل يمكننا حاليا استخدام منهج ابن قتيبة في نقد الشعر؟ حيث نفعل كفعله إذ كان يُحول الأبيات لنثر فإن رأى معنى جيدا حكم بجودة الشعر، وإلا فهو رديء؟! كانت محاولات بسيطة وساذجة كما وصفها سيد قطب في كتابه (النقد الأدبي) فقال بأن منهج ابن قتيبة ساذج ونظره قاصر فنيا، ورغم إسهامات اللاحقين من بعده إلا أنها لا زالت منذ بدأت في العصر الجاهلي مجرد انطباعات بالسليقة والذائقة الذاتية، بل كان الشعراء يُقدمون الشاعر دون غيره لا لمنهجية بنائية ولكن لأن أبياته لامست شيئا ذاتيا لدى مُقدمِه، كما قدم الحُطيْئةُ الشاعر أبو دؤاد على أنه أشعر الناس، لا لشيء إلا أن أبياته وافقت رغبة الحطيئة في تكسبه بالشعر! 

أسس وضع المناهج النقدية عند الغرب 

في حال أن الغربيين كانوا يضعون المناهج النقدية على أسس فلسفية واضحة، ونشأت المدارس النقدية بتعليلاتها الواضحة، وهنا يتضح أننا كعرب إذ لا فلسفات لدينا فمن الطبيعي جدا أن نستورد فلسفات الغرب وما ارتبط بها وتأسس عليها من نظريات نقدية، وكل تطورات العلوم من حولنا يسهم في تطور الفن والأدب، كما تتطور الحياة وتتغير وتصير هناك مكونات للأنا ومؤثرات مختلفة عن مكونات الماضي ومختلف المجتمعات.

لذلك فعملية الرفض للبناء القديم ليس رفضا مهينا بل رفضا مدفوعا بالرغبة في البحث عن الأنا في ظل الحضارة، لا عن الهوية الأصلية، فأصل الهوية ثابت، ولكن ما يتغير هو الشكل الفني والأسلوب الإبداعي كي يكون مناسبا للمعنى وأرحب لاستيعاب الحديث والمتطور، فالإنسان الحاضر ليس كإنسان الماضي، وإنسان العالم الأول وتطلعاته وطموحاته لغزو الفضاء ليس كتطلعات الإنسان في العالم الثالث بأن ينام شبعانا أو يوفر وجبة غداء الغد! 

الشعر في مأزق بين ثقافتين 

الإنسان ثائر على ذاته وعقله ونظامه المعرفي القديم بل وحتى الديني المقدس، أفلا يثور على شكل فني وقواعد وقوالب هلكت من الدهر! ورغم محاولات الكثيرين في مواكبة الحداثة الشعرية وضعت الشعر في مأزق بين ثقافتين، فلا هو محافظ على خصوصية الأصالة العربية، ولا هو بمنزلة الشعر الغربي، بل مجرد استلهام لجسد بلا روح، وخلق شكل فني لا يعبر عن الأنا بمكوناتها الأصيلة في الماضي، ولا استطاع التعبير عن أنا الحاضر! نحن لا نحتاج لنسف نتاج الماضي كي نبني نتاجا حداثيا، بل نستفيد من الحداثة في الشكل دون أن نقطع بالجذور القديمة كما كانت محاولات كل جيل متطور عمن سبقه.

أزمة الشعرانعكاس لأزمة العرب 

أخص في كلماتي أزمة الشعر خصوصا لأن الشعر منتج أصيل للعرب وليس كالقصة والرواية التي استوردناها بقوالبها بنظرياتها النقدية بشمع بلادها، لكن الشعر بدأ قديما جدا ومر بالعصور التي مر بها العرب وبالأزمات كلها، ولذا فأزمة الشعر انعكاس لأزمة العرب، وأزمة العرب انعكاس لأزمة العقل العربي، بل والوجدان العربي، فنحن في مفترق طرق رهيب، وأزمة حضارية كبيرة، ويجب على كل مفكر وفنان عربي أن يحمل الهم والمسئولية إن كان مفكرا وفنانا حقيقيا وليس كبهاليل الزفة.

اقرأ أيضا: 

طاحونة النمل) رواية اجتماعية واقعية للروائي محمد إسماعيل معرض الكتاب 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *